×
15 جمادى آخر 1447
5 ديسمبر 2025
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي

جرة الأعمى

جرة الأعمى
جرة الأعمى

بقلم : د.صلاح شفيع 

ملأ أعمى جرته من النهر ليلًا ، ومضى يحملها وفي يده سراج، فقابله رجل ، فقال له : 
ـ يا هذا .. أنت أعمى ، والليل والنهار عندك سواء . 
قال الأعمى : 
ـ  يا فضولي ، حملتها معي لأعمى القلب مثلك يستضيء بها فلا يعثر بي في الظلمة فيقع علي  ، فيكسر جرتي.
وقفت أمام هذا الأعمى فوجدته ينظر بعين مختلفة ، نعم ، كان الأعمى يملك عيناً مختلفة ، لهذا تنجو جرته . 
 إنها العين نفسها التي كانت عند بيكاسو ، لما تفقد بيته الذي اقتحمه اللصوص .. لقد بدا عليه الغضب الشديد وهو يتفقد بيته .. فسأله صديقه : 
ـ  هل سرقوا شيئًا مهمًا ؟
قال بيكاسو : 
ـ  كلا .. لم يسرقوا سوى أغطية الفراش ،!
ـ ففيم غضبك الشديد ؟
 قال بيكاسو : 
ـ أتريدني لا أغضب  ، وقد رأى هؤلاء الأغبياء أن لوحاتي لا تستحق أن تسرق ؟!!
ولهذا كان بيكاسو يبدع ، ينقل العالم بلوحاته ، فيرى العالم الشيء الذي طالما رأوه كأنهم يرونه لأول مرة ، لأنه مر من عين أخرى ترى ما لم تره كل الأعين ، تلك العين المختلفة هي نفسها التي رأت في سرقة مقتنيات المنزل وبقاء لوحاته إهانة له . بينما الأكيد أن كثيرين غيره سيسعدون ، وسيقولون : الأشياء يمكن أن نعوضها ، وربما يفرحون  إن إبداعهم الذي يظنون أنه لا يعوض ، لم يسرق ، ولا يدرون لعل إعادته مرة أخرى توصله إلى الكمال ..  إنها العين المختلفة !

 أو ليست تلك العين المختلفة هي نفسها عين الشافعي الذي قال لحاسده : 
ـ والله لو أحبني أمثالك لشككت في نفسي . 
 لأنه يملك عيناً مختلفة ، تحسن النظر إلى نفسها ، ولا يعنيها رأي الآخرين ، لذلك يفهم أن عليه في مواجهة من لا يتمنى نجاحه ، ليس التوجع من سواد نفسه ، لأنك بذلك الحزن تحقق له ما يريد ، وتتنحى عن طريق النجاح الذي أوجعه ، إذا أردت الرد المناسب لمن يكره نجاحك ، فليس إلا أن توجعه بمزيد من النجاح ، ليس إلا أن تنصرف عن التفاعل مع سخافاته معك ، بل الانكباب على العمل .. واترك نجاحك يفعل فعله معه . لذلك رجاءً .. لا تتوقف لحظة لتناقش لماذا يكرهني هذا ؟ وأنا لم أفعل معه شيئًا ؟ لا يا سيدي ، لقد فعلت النجاح ، وكفى بالنجاح خطيئة لتجلب عليك الحاسدين ، فلا يضايقك حسدهم بل قل مع الشافعي : والله لو أحبوني لشككت في نفسي.

واعلم أن الفرح والحزن في نظرتك للأشياء ، فكم من أشياء تحزن هذا ، لكنها تفرح غيره ، قد يحزن من ترك قصره إلى  شقة صغيرة ، لكن انظر إلى تلك الفرحة الطاغية من تلك العائلة الفقيرة لما امتلكت شقة صغيرة لأول مرة .. فالآخر أيضًا كان يمكن أن يحول حزنه إلى رضا لو استحضر الموقف المقابل ،  هنا سترى الأشياء بعغين أخرى ، ولن يؤلمك الشيء الذي يؤلم فعلًا ، قد يكون ما حدث من أقرب الناس يوجب الضيق ، لكن ما ضرك مطلوب  لو قلت لنفسك ، هو يضايق لكني لن أتضايق . 
انظر إلى الحبيب صلي الله عليه وسلم .. تأتيه أم جميل امرأة أبي لهب ، وهو يجلس إلى جوار صاحبه أبي بكر ، فلا تراه ، وقد أمسكت  فهرا ً( أي حجرًا) تريد أن تضرب به رسول الله فقالت: أين صاحبك مذمم ؟ إنه يهجوني ، ولقد علمت العرب إني لشاعرة ، وإن وجدته لأرجمَنَّه بهذا الفهر ، ومضت فقال أبو بكر للحبيب صلي الله عليه وسلم : ألم ترك ؟ قال : لكن انظر كيف صرف الله الإيذاء عني ، تشتم مذمماً ، وأنا محمد ! إنه يدري أنها تشتمته هو ، لكنه لما رأى الشتم يمكن أن يكون بعيدًا ، تركه بعيدًا ، ولم يشده إلى نفسه صلى الله عليه وسلم ، بخلاف كثيرين يصرون أن الشتم لهم، وإن لم يكن الشاتم يقصدهم هم ، بل حتى لو أقسم لهم أنه لم يقصدهم ، يأبون إلا أن يشدون الشتم إليهم ، ولا يدرون أن شاتمهم الآن ليس إلا أنفسهم ، هو ينفي أنه شتمك ، فما حاجتك إلى جر الشتم لنفسك ،  ألا يكون لك عين محمد صلي الله عليه وسلم التي ترى النافذة التي يخرج منها الشتم بعيدًا عنه . 

وأنا صغير قال لي الرجل الذي أعتبره كأنه أبي : وطلب مني أن أشجع النادي الذي يشجعه ، بعد أن أجلسني على منضدة ، وفوجئ بي أشجع النادي المنافس ، لما وجدت معظم رواد المقهى يشجعون الفريق الذي يشجعه من اعتبره أبي ، فاخترت أنا الفريق الآخر ، لما كبرت ، سألت نفسي : لماذا فعلت ذلك ؟ هل أنا ممن يقال عنهم  خالف تعرف؟ ظللت أخاف أن أكون كذلك حتى اطمئنيت أنني أخالف كل خطأ حتى لو كانت الدنيا في صفه، وأنني قد أهرب من الشهرة والمعرفة والمنصب إن كان ذلك يخالف قناعاتي ، فحمدت الله على هبة المخالفة ما دام ليس هدفها الاشتهار فكم خالفت الخطأ بعد أن أصبحت معروفًا. 

إن المخالفة في الصغر هي ما تدفعك إلى التميز في الكبر ، وقد تكون المخالفة فعلا في البداية وأنت صغير لتعرف ، ولا ضير في ذلك فإذا وعيت فوجِّه مخالفتك لتكون في صف الحق ، وما أحوج الزمن لأمثالك في كل وقت ، ولا تقلق من المخالفة فقد كان د. طه حسين يعشق المخالفة ،  وها هو بعد أول سنة له في الأزهر عندما رجع إليها كان يأمل أن يحتفوا به كما فعلوا مع أخيه من قبله ، لكن القرية لم تعره انتباهاً ، ولقي منها تجاهلاً تاماً ، وهنا بدأ انتقامه من هذا التجاهل ، فأعلن رأيه في كتاب التوسل بالأولياء دلائل الخيرات، واعتبره كفرًا وليس من الدين ، وفي ذلك الوقت كانت القرية كلها تؤمن بالتوسل بالأولياء ،وأقام القرية ولم يقعدها ، ولقد كان الصغير على صواب لكنه كان يعرف ذلك من قبل ، ولم يعلنه ،  وكان أخوه الكبير يعرف ذلك ولا يفعل شيئًا ، فلماذا قرر الصغير إعلان ثورته؟ ليس إلا لأنهم تجاهلوه فأراد أن يجذب نظرهم، وفعلا مضى إلى البقال الذي يذهب إليه كل أهل القرية، وأعلنها مدوية ليأتي الشيوخ والعلماء وكان عددهم تفيض عنه أصابع اليدين، جاءوا ليردوا الغلام الذي ضل لما ذهب إلى القاهرة إلى الهدى ، ونجح أن يكون حديث القرية ، لم يعنه أن يقنعهم أو يقنعوه.

هذا الفعل وإن كان الصواب معه إلا أنه لم يفعله لأنه كان يعالج خطئاً بل فعلها ليجذب انتباهًا ، لكن تلك المخالفة التي بدأت في البداية مصداقا لقولهم : خالف تعرف ، إلا أنها كانت النار التي تمنعه من أن يرضخ لحالته، فلم يقبل أن يكون مجرد أعمى يتعلم في الأزهر، وحتى لما أخذ الدكتوراة ، لم يقنع بل أراد أن يكون مبعوث الجامعة إلى فرنسا وسط اندهاش مسئولي الجامعة، وما أكثر الأشياء التي تنجح لأنك تمشي إليها ، وهل الاستمرار في الصعود إلى الجبل يبعدك عن القمة أم يقربك منها ، وبما تصل إليها ؟ 
وهذا عبد الله بن الزبير، أول مولود في المدينة يلعب وهو غلام في شوارع المدينة مع مجموعة من الصبيان ، فيمر بهم عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، ففروا إلا عبد الله بن الزبير ، فقال له عمر: ما لك ؟ لِم لَم تفر مع أصحابك؟ قال : يا أمير المؤمنين لم أجرم فأخاف ، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.

إنه مختلف لا يفعل ما يفعله الآخرون لمجرد أنهم يفعلونه، إنه يفعل ما يراه فحسب ، وسيكبر ابن الزبير وسيجد الناس كلها ترفض يزيد بن معاوية ، ولا يعلنون ، وهنا تدفعه طبيعته التي تأبى الرضا بما لا يريده إلى إعلان نفسه خليفة للمسلمين. وهل ننسى إبراهيم عليه السلام ، لما رأى قومه يعبدون الأصنام ، فرفض أن ينساق معهم ، وقد أثنى الله على اعتزاله لما يعبدون ، فحتى لو لم يكسر الأصنام واكتفى بالاعتزال عنهم فهو عند الله محمود.. 

المختلف يدرك ما حوله، فلا يصل عن مكانه في تلك اللحظة ، المختلف يدرك ذاته في مكانها وزمانها ، انظروا حاجب بن زرارة يستأذن علي كسرى فيسأله الحاجب : من أنت ؟ وهو سيد من سادات العرب ، لكنه يدري أن الحاجب لن يتأكد من قولته ، فيقول له : رجل من العرب فيستأذن له الحاجب ، فيعجب كسرى من هذا الرجل العادي الذي يطلب مقابلته ، فيأذن له لفضوله أن يعرف ما وراؤه . فلما وقف حاجب بن زرارة بين يديه .. سأله من أنت ؟ قال : سيد العرب، قال : ألم تقل للحاجب أنا رجل منهم ؟ قال : بلى ولكنني وقفت بباب الملك وأنا رجل منهم، فلما وصلت إلى الملك سدتهم ، فقال كسرى زه ، احشوا فاه درًا .
وهذا شاب من الموالي لا ينسى قولة النبي لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، فلما رأى مجموعة من أترابه في السن يتسابقون في الرمي، انضم ليتسابق معهم ، وهو يدرك أن لا فرق بينه وبينهم ،  لكنه وجدهم قبل الرمي كل منهم يتفاخر بأصله ، فمنهم من يقول أنا ابن القرنين فيسأل : من ؟ فيقول له : من ولد طلحة ، وآخر يقول أنا بن الشهيد ، فيسأل : من ؟ فيقول : من ولد عثمان فيتقدم الشاب فيقول : وأنا ابن من سجدت له الملائكة .. فقالوا له : من هو ؟ قال آدم.

 إننا كلنا نملك نفس الافتخار بآدم ، لكن كلنا إلا المختلف السابق هو من تذكرها فأسعفته وأحرجت من قبله ، فلا افتخار بنسب ، فلو كان الافتخار بالنسب يجدي لقلنا على أبي لهب عم رسول الله صلي الله عليه وسلم  : سيدنا .

المختلف لا يدرك ما حوله فحسب، بل أيضًا يتوقع ما سوف يحدث ها هو مؤدب ابن الخليفة  يحفِّظه سورة النازعات ، فلما أتمها الصبي ، قال لنفسه  : لعل أمير المؤمنين يسأل ابنه : في أي شيء أنت ، فيقول له ولي العهد : أنا في النازعات فينقبض الخليفة لقولة ابنه ؛ لذلك قال لتلميذه ابن المعتز ، لو سألك أبوك أمير المؤمنين في أي شيء أنت ؟ فقل له في السورة التي تلي عبس، ولا تقل أنا في النازعات ، ويسأله أبوه .. ويجيب الابن تلك الإجابة فيقول له من علمك هذا ؟ قال : مؤدبي ! فأمر له بعشرة آلاف درهم.

إن الاختلاف الذي يجعلك تتوقع ما هو قادم إنما هو الخير ، أو على الأقل تجنب الشر في رأينا أن تفادي الشر أعظم خيراً من الخير ذاته .

خرج أمير ومعه رجل فيه ذكاء ، فبينما هم على الغداء قال للأمير اركب فقد لحقنا القوم ، قال الأمير : كيف وما يرى أحد؟ قال الرجل : لا وقت أمامنا الأمر أسرع مما تحسب، ونجا الأمير من موت محقق ، وتعجب من الرجل ، وقال له : كيف خمنت الخطر؟ قال : أما رأيت الوحش مقبلة علينا ومن شأن الوحوش الهرب منا فعلمت أنها لم تدع عاداتها إلا لأمر قد دهمها .

لله در هذا الرجل، لقد رأى الجميع الوحش مقبلة لكنه وحده من رأى أنها تفعل عكس عاداتها ، فثمة قادم وراءها إنه مختلف ، لا يرى الأجسام ، لكنه يرى المعاني التي لا يراها إلا المختلفون.
وتمر الجنازة والنساء تصرخ ، والناس كعادتها تقف احتراماً للجنازة وتطلب الرحمة للميت ، إلا ابن نوح يقول لهم: إن صاحبكم حي فدعوني أعالجه ، فصاحوا عليه فقال الناس : دعوه يعالجه فإن عاش وإلا فلا ضرر عليكم ، وأدخل الميت الحمام فعالجه الطبيب ، وأفاق الرجل فسأل الطبيب: كيف عرفت أني لست ميتًا ؟ قال : رأيت رجليك في الكفن منتصبة ، وأرجل الموتى منبسطة ولا يجوز انتصابها فعلمت أنك حي وقد لحقتك سكته.

جلس عمارة على مرتبة المرسومة له في مجلس الخليفة المنصور، فقام رجل فقال مظلوم يا أمير المؤمنين ، ظلمني عمارة وغضبني ضيعني ، فقال المنصور : قم يا عمارة فأجلس مع خصمك ,  قال عمارة : ما هو لي بخصم ! قال وكيف وهو يتظلم منك ؟! قال : إن كانت الضيعة له لم أنازعه فيها ، وإن كانت لي فقد تركتها له، ولا أقوم من مجلس شرفني أمير المؤمنين بالرفعة فيه فأجلس في أدناه.

دفن رجل مالاً في مكان وترك عليه طابقًا وترابًا كثيرًا، ثم ترك فوق ذلك خرقة فيها عشرون دينارًا، وترك عليها ترابًا كثيرًا ، ولما احتاج الذهب كشف عن العشرين فلم يجدها ، فكشف عن الباقي فوجده ، فحمد الله على سلامة ماله، وإنما فعل ذلك خوفاً أن يكون رآه احد، وكذلك كان ،  فلما جاء الذي رآه وجد العشرين فأخذها ولم يعتقد أن هناك شيئا آخر.

إذا أردت أن تعيش سعيدا في العالم  فكن مختلفاً ما استطعت ، وسوف تجد أن ما رآه الناس مستحيلاً قد يكون عندك بسيطاً ، إن الرجل الذي فكر في فكرة تدمير خط بارليف بالمياه كان مهموماً بقريته الصغيرة قرب الاسكندرية ، التي تتحصن من البحر بجسر ترابي ، إن زادت الأمواج أهالته ، هنا وجد مأساته في قريته حلاً عبقرياً لأزمة أمته ، وفي بدايات الإسلام لما جاء الفرس بالفيلة فزع الناس ، وأيقنوا الهزيمة لما رأوا من فرار الخيول من وجه الفيلة ، لكن ثمة رجل قال لهم : سننتصر بالهر والخنزير.
احملوا خنزيرا واضربوه ، ستهرب الفيلة عندما تسمع صوته، أما من يحمل الهر فعليه أن يدنو من الفيل ويرمي بالهر في وجهه ، وأدبر الفيل هارباً وتساقط من كان فوقه ، وكان الفيل سبباً في الهزيمة ، بعد أن كان من معه يرون فيه سببًا للنصر.

استطلاع الرأي

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,566 شراء 3,589
عيار 22 بيع 3,269 شراء 3,290
عيار 21 بيع 3,120 شراء 3,140
عيار 18 بيع 2,674 شراء 2,691
الاونصة بيع 110,894 شراء 111,605
الجنيه الذهب بيع 24,960 شراء 25,120
الكيلو بيع 3,565,714 شراء 3,588,571
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الجمعة 06:12 مـ
15 جمادى آخر 1447 هـ 05 ديسمبر 2025 م
مصر
الفجر 05:04
الشروق 06:36
الظهر 11:45
العصر 14:36
المغرب 16:55
العشاء 18:17