طبق ماوية
بقلم : د.صلاح شفيع
إن أنس لا أنسى طبق ماوية ، وما ماوية ؟؟ امرأة ذات نفوذ كانت تقوم بتزويج نفسها ، وإن ضجت من حياتها معه طلقته ، وها هي قد أعلنت أنها ستتزوج من تتوافر فيه عبقرية الشعر ، والجود ، وهكذا شاع في العرب ماوية زوجها المنشود هو أشعر الناس وأكرمهم .
ثلاثة وجدوا في أنفسهم القدرة على ذلك ، كل منهم يطمع أن يفوز بالرائعة ، بادر كل منهم بذبح الإبل ، وإطعام الحي ، في انتظار اللقاء في الغد ، ستقوم الأميرة الجميلة باستضافة الثلاثة على مائدتها ، تسمع منهم الشعر .. ثم تعلن قرارها ، قد اخترت منكم فلاناً.
جلس الثلاثة على المائدة .. أنت هنا .. وأنت في الجهة المقابلة .. وأنت هناك .. ستأتي الأميرة بعد قليل .. كل منهم أمامه طبق عليه غطاء..
ـ تفضلوا الطعام .. !
وقف اثنان .. بكل غضب ..
ـ تلك إهانة .. !
إنك تقدمين طعاماً طيباً لواحد فحسب .. بينما تقدمين الذيل ، والشغث لاثنين..
ـ هذا صحيح ، لكني لم أختره ، هو من اختارني ، لقد حسمت أمري أن أتزوج من يكون ظاهره باطنه .. الجواد بحق وليس إدعاء..
ولقد ذبح كل منكم ، وأولم للحي .. وحضرت متنكرة ، أطلب منكم .. ليس طعامي طبعاً .. لكن ما أقدمه لكم على مائدتي .. نعم ، هذا ليست مأدبتي الخاصة لكم ، لكن تلك بضاعتكم ترد إليكم .. ما أمامكم هو الطعام الذي قدمه لي كل منكم .. كلوا من طعامكم .. تلك حقيقتكم في أطباقكم .. فلير كل منكم نفسه على حقيقته ..
هكذا .. أعطاها واحد منهم فحسب .. لحماً طيباً مثلها مثل السادة ، بينما أعطاها الآخران كخادمة تبعاً لتنكرها ، اثنان .. تعاملا على شكلها ، وليس على ذاتهما ، وآخر لم يعاملها على شكلها ، بل تبعاً لذاته .. أنا أتخيل الآخر أنا .. وأنا لا أقبل إلا طيباً .. فلماذا أعطي لحماً رديئاً لنفسي .. ؟؟
قالت لهم ..
ـ لقد اخترت من اختارني .. !
لو كنت مكانها .. لقلت لهم ..
ـ لا تغضبوا من أطباقكم ، بل اخجلوا منها ، لأنها حقيقتكم .. ليست أطباقاً ، بل مرآة ، تعكس صوركم الحقيقية ، فإن كنتما تتقززان منها ، فماذا يفعل الناس ؟؟ أما ثالثكم ، فكان ظاهره كباطنه ، لم يتصنع ولم يتجمل .. بل تخيل أن السائلة التي جاءت تستطلب منه طعاماً إنما هي .. هو .. اتحد مع نفسه .. فلم يجد أحد فرصة ليتسلل في الفجوة بينهما .
حاولت الجليلة أن تتخلص من أخي زوجها ، فوسوست لزوجها بأنها لا ترتاح إلى نظراته ، وهنا يطلب الزوج من أخيه أن يغادر الديار ، ولم يكد الأخ يرحل ، حتى قُتل زوجها من أخيها جساس ، وثارت نساء القبيلة ضدها ، لا تعيش معنا أخت قاتل أخينا .. واستنجدت بكبير القبيلة الجديد .. المهلهل ..
ـ أريد أن أبقى مع أولادي ..
لم ينس لها مكيدتها ، قال لها .. كلي من طبقك يا امرأة أخي .. ماذا تقول الناس إن بقيت في مكان معي .. بعد أن شنعت عليَّ كذباً أني أريد بامرأة أخي سوءاً ..
قال القاضي شريح لامرأته .. لا تكشفي الغطاء .. إلى أن أرجع .. لما مضى ، قالت امرأته لنفسها : وأنى له أن يعرف أني كشفته .؟ سأعرف ما تحته ، وأرده ثانية ! رفعت الغطاء ، فلدغتها العقرب ..
لقد هم شريح أن يقتل العقرب ، لكن الصلاة داهمته ، فوضع عليها الغطاء ، حتى إذا رجع قتلها . لما رجع ، وجدها تتلوى من اللدغة .. قال لها :
ـ لم يكن العقرب تحت الغطاء فقط .. بل كانت أيضاً من كشف الغطاء .. !
مرة أخرى أكلت امرأة شريح من طبقها .. لم يظلمها أحد ، بل ظلمت نفسها . لا يجب أن تشكو من العقرب ، بل تخجل من نفسها كما خجل الاثنان من طبقيهما على مائدة ماوية.
لما اعتذر النعمان عن خطوبة كسرى لابنته هند ، قال المترجم العربي عدي بن زيد قاصداً الإطاحة بالنعمان ..
ـ مولاي يقول لك النعمان .. ألا يكفيه مها العراق ؟
ـ وما المها .. ؟؟
ـ المها .. البقر .. يا مولاي ..
ـ ماذا .. أيقول عني هذا الجلف العربي ..ألا يكفيه بقر العر اق .. ؟؟ أنا .. كسرى .. اقتلوا كل عربي .. وابدأوا بهذا المترجم ، فهو عربي أيضاً .. وهكذا .. اكتوى الكائد بناره ، فالنعمان يقصد .. ألا يكفيه حسناوات العراق .. لكن العرب تسمى الحسناوات .. مها .. لكن المترجم الذي يريد أن يؤلب كسرى على النعمان ، ترجم الكلمة ليس بمعناها الذي يعرفه كل عربي .. بل ترجمها حرفياً .. يقول لك : يا كسرى ألا يكفيك بقر العراق ؟؟
جن جنون كسرى وبدأ بأول عربي أمامه ، ولم يكن إلا عدياً المترجم الحاسد الذي طبخ طبقاً من النار للنعمان ، فاكتوى بطبخته قبله.
يقال إن بيبرس العظيم سمع العلماء يؤكدون أن الكسوف الكامل للقمر يعني أن يموت رجل جليل القدر ، وخاف بيبرس على نفسه أن يكون المقصود ، لذلك جاء بأحد ورثة الخلافة العباسية ، وقرر أن يتنازل له عن تلك المكانة ، أنت لا أنا هذا الرجل جليل القدر .
واستضافه في تلك الليلة ، وعزم أن يقتله ليكون هو الرجل جليل القدر ، وأوعز إلى ساقيه أن يضع له سماً في الشراب ، لكن بعد أن شرب الرجل ، لم يغسل الساقي الكأس جيداً ، ليدور الكأس مرة أخرى على بيبرس ليشرب من كأسه ، ليتلوى هو الآخر ، إنه كأسه الذي قدمه للرجل ، شرب منه كرهاً عنه .
ويموت رجل عظيم لأنه خاف الموت وهو الذي عاش حياته كلها لا يخافه . أول مرة يخافه ، يؤثر غيره برجل جليل القدر ، أنت لا أنا . ثم يشرب من هديته نفسها .
ويقف الخليفة على فتى يرعى الغنم ..
ـ يا غلام اذبح لنا شاه ..
ـ لكني مؤتمن ..
ـ قل لصاحب القطيع .. أكلها الذئب ..
ـ سيدي ، فأين الله !
ـ الله يا بني ..
يشترى السيد العربي .. الغلام ، ويعتقه .. ويشترى القطيع .. ويهديه له .. يا بني هذا طبقك .. فطب طعاماً ..
في ظلمة الليلة يسمع الصوت واضحاً ..
ـ يا أماه .. لن أفعل .. لقد نهى أمير المؤمنين عمر عن مزج اللبن بالماء !
ـ لكن عمر لا يرانا ..
ـ يا أماه .. إن كان عمر لا يرانا .. فإن رب عمر يرانا ..
قال أمير المؤمنين : يا الله .. ما أروع تلك الصبية .. والله لتكونن .. في بيت عمر .. وإن أبى أولاد عمر .. يتزوجها عمر نفسه .. !


















