عملة الوجه الواحد
كتب : د.صلاح شفيع
الموهبة كالشجرة التي لا قيمة لها إن لم تغرس في أرض ، وماذا يفعل ذو الصوت الرخيم إن حبسوه في حجرة عازلة للصوت ؟ فإن ملكت موهبة لا تنتظر أن تشق طريقها بنفسها ، فلابد لها من بيئة صالحة لتنبت فيها ، فإن لم توجد فعليك بصنعها، يجب أن تصنع لها بيئتها التي تسمح بنموها .
في الأساطير اليونانية شخصية أبوللو غني عن الذكر للذاكرة العربية ، وغرامياته كثيرة ، وقدراته أكبر ، أحب كاساندرا ابنة بريام ملك طراودة ، أو قل إنها التي طلبت منه هبة التنبؤ بالمستقبل في مقابل أن تكون حبيبته ، وهكذا وهبها أبوللو نعمة التبصر ، والاستشراف ،والقدرة على التنبؤ بالمستقبل قبل حدوثه ، وقراءة ما هو قادم كأنه يحدث أمامها ، ويمكنها أن تحذر مما هو مهلك ، لكن يبدو أنها بعد أن حصلت على تلك النعمة سخرت من أبوللو ، فما كان منه إلا أن قرر أن يفسد نعمته . يقال إنه لعنها : فلتقولي صدقاً كل ما سيحدث .. ولا يكن لك تصديق لنهاية حياتك ، يكذبك كل من يسمعك !
وهكذا أصبحت الأميرة قادرة على التنبؤ بالمستقبل ، وفي الوقت نفسه لا يستفيد أحد من تنبؤاتها . لأن لا أحد ممن يسمع تنبؤها .. يصدقها .. وهكذا لما رأت أخاها باريس يهم بالسفر إلى مدينة اسبرطة .. حذرت من سفره.
ـ لا تدعوه يذهب .. سوف يتسبب في اندلاع حرب .. تدمر مدينتنا طراودة بأكملها..
ولم يصدقها أحد ، ومضى باريس إلى أسبرطة ، ورجع بجميلة جميلات الدنيا هيلين زوجة مينيلاوس .. ومرة أخرى تصرخ في وجه ذات الجمال الساحر ، وتحاول أن تمنع دخولها عليهم..
ـ هذه المرأة لعنة على طروادة .. ستدمر طروادة .
ولم يسمع لها أحد .. وهكذا .. تردد في مسمعها صوت أبوللو .. لن يصدقك أحد ! حتى لما رأوا بأعينهم أن ملك اسبرطة جمع جيوش أوربا وحضر لحصار طروادة ، لم يقل لها أحد كان عندك حق . ولما ترك اليونان حصانهم الخشبي .. قالت لهم : احذروا من الحيلة البارعة لأهل اليونان .. احذروا من حصانهم الخشبي .. ضحكوا منها ، وأدخلوا الحصان إلى مدينتهم ليكون ذلك بداية السقوط.
وبالفعل انتصر اليونان على قومها ، وقاموا بتدمير المدينة بأكملها ، وقُتِل أبوها وأخوتها ، وأُسرت النساء ، وأصبحت الأميرة كذلك أسيرة ، ووقعت في نصيب قائد اليونان أجاممنون . ماذا تفعل ؟؟ أتمضي كالمجنونة تصرخ في الشوارع :
ـ ألم أقل لكم ، ألم أحذركم ؟؟ ألم أقل لكم إن باريس سيجلب عليكم الدمار ؟ ألم أقل لكم إن هيلانة لعنة .. ستدمر طروادة الحبيبة .. ؟؟ لقد نصحتكم .. لكن لم تسمعوا لي .. والآن .. ها أنا أذهب سبية ذليلة مع قاتل أبي وأخوتي . بربكم أكنت أنا المجنونة لما حذرتكم .. أم أنتم المجانين لما لم تنتصحوا ؟؟ لكني حقاً الآن أريد أن أكون مجنونة .. ليتني كنت مجنونة .. !
ستكونين نبية كاذبة يا كاساندرا .. سيضحك منك الجميع ، وسيقولون عنك :
ـ مجنونة .. !
، ورجع بها القائد المنتصر أجاممنون إلى وطنه . ولم يكن حظها معه بأحسن حالاً من حظها مع قومها ، أو قل لم يستفد من تحذيراتها هو الآخر ، فقد أخذها معه إلى قصره ، فحذرته أن زوجته كليتمنسترا تخونه ، فسخر منها ، و لما وصل إلى بيته ، حذرته من الدخول : ستقتلك امرأتك هي وعشيقها إيجيستوس .
ـ لا تدخل أرجوك .. ستقتلك وتقتلني ..
ودخل البطل المنتصر لحتفه ، فما استطاعت أن تمنع عنه الموت ، وما استطاعت أن تمنع عن نفسها الموت ، نعم هي تعرف المستقبل ، لكنها أبداً عاجزة عن تغييره حتى لنفسها .
وستظل كاسندرا .. تجسد فكرة الصارخ باليقين ، وسط صم .. ولعل كثيرين آلمهم ذلك ، أن يحذروا قومهم من أشياء ، ولا يحفل بهم قومهم . ولابد أنهم لو عرفوا أنهم يكررون كاسندرا لشعروا بمدى عذابها.
وفي التراث العربي نجد زرقاء اليمامة .. كانت النبية التي كذبها قومها ، ولما صلبها العدو ، كانت تنظر إلى جثث قومها ، أعلمتم الآن أني كنت على حق ، أعلمتم يا قومِي إنه العدو .. أنذرتكم وأنتم وقوفاً ، فلم تستبينوا الحقيقة إلا وأنتم على وجوهكم تلثمون التراب .. ترى ماذا يفعل بوجوهكم التراب ، أيصفعها ؟ أم تتوسلون له أن يصفعها ؟؟
لي مجموعة قصصية اسمها (غداً .. بل أنا ) تحمل عنوان إحدى القصص ، والعنوان يعني .. غداً تعرفون الحقيقة ، وهذه الحقيقة التي ستعرفونها غداً ، يمكنكم أن تروها الآن .. فأنا اليوم .. ما سيحدث غداً ، أخبركم الآن بما ستقابلون في الغد .. إليكم القصة أولاً .. (غداً .. بل أنا ) : التي كنت أراها وصيتي لقومي .. وشعرت عند الانصراف عنها بما يشعر به النبي لما يجد قومه يكذبونه : وأترككم مع القصة القصيرة .. غداً .. بل أنا !
ويرن بين جدران آذانـنا صوتُه العميق :
ـ غداً ، بل أنا ! احذروا الشجرَ ، لاتزرعوا حول المدينة غابةً
تذهب ، تعود ، نموت
تحزنون ، تفرحون ، تموتون !!
ـ لا تزرعوا الشجر فى القلوب ، القلوب تجلس كثيراً في الشمس ، تصفر العيدان ، تتحـجر ، يضـيع محصول العام ، وتتـشقق الأرض ، الموت قادم.
ونسـخر منه ، هل لأنه ذو بصر يسـبق بصـرنا بعدة أيام يـخـتلق شـيئاً غير موجود ؟ لكن كدنا نراه على صواب ، عندما غاب الشجر ، والحب مُودَعٌ في جذوعه ، عندما هامت الطيور لاتـجد وطنـاً ، لكن غياب الشجر لم يدمْ ، عاد في الخريف بالشتاء .
يرتفع صوته مرة أخرى :
ـ العدو قادم . الطيور تقود الإنسان إلى الوطن ، وفى هجرتـها الإنذار بالرحيل ، نحن نتبعها فى الحل والترحال .
ـ لا تخلق وظيفة لموهبتـك ، قد عادت الأشجار والحب والنماء ، عادت الغابة أخيراً ، فى كل جذع شجرة ، اسم فتـى وفتـاة ، وقلب وسهم ..
ـ إنه العدو .. الموت ..!!
ـ إنك تحقد على الحب ، لاتريد الغابة لأنها وطن المحبـين ، لأنك فشلت أن تُبهر فتاة ، لأنك طويل ، عيناك الحادة مخيفة ..
ـ إنه العدو ، غداً ، أنا ! العدو قادم بالغد ، انظروا لصوتى ، تسمعون الغد ، ترون العدو ، أنا الآن غداً ، أو أن غداً هو ما أخبركم به الآن ، إما نردّ الطيور لأعشاشها أو سنلحق بـها فى الغد ..
ـ جننت ياصاحب البصر الحاد !!
ـ إنه العدو .. غدا .. بل أنا .. أرى الأشجار تتحرك ..
ـ مجنون !! مجنون !!
لم يكن هذا الرائي المحذر الذي تقمص جسد زرقاء اليمامة ، إلا صورة من كاساندرا . النبية التي لا يعرف الناس صدقها إلا بعد وقوع المحذور . وإن كان بعضهم يقول إن أبوللو بصق في فمها ، ليجعل الناس لا تصدقها ، فلابد أنها كانت تريد أن تبصق عليهم ، وتقول لهم :
ـ أيها الأغبياء .. !
وأبوللو أيضاً .. كرر النعمة المفقودة .. أي ذات الوجه الواحد ، أو المفرغة من معناها مع عراقة كوما : ( سبيل ) . لما سألها : ما أمنيتك يا سبيل ؟ فمدت يدها فقبضت قبضة من رمل ، ثم قالت له :
ـ ذلك ما أريد .. أن أعيش من السنوات بعدد ما في قبضتي من حبات الرمل ..
ـ لك ذلك ..
لكنها نسيت أن تقرن طلبها ذلك بالعافية ، أو أن تظل شابة ، فعاشت عمراً طويلاً جداً ، تجاوز ألف سنة ، لكن بلا شباب وبلا عافية ، وطعنت فى السنين واستحالت مخلوقا ضامراً وضع في قاروة معلقة حتى ضاقت بالحياة وكانت تجيب الأطفال عندما يسألونها : ماذا تريدين ياكوبيلى ؟ بقولها أريد الموت . فطول العمر لا قيمة له ، ما لم يكن مصحوباً بالشباب الدائم.


















