مذكرات مهاجر مجهول (3)
كتب : د.أشرف يعقوب
لم أكن أنوي الهجرة لأني قرأت قصة الف ليلة و ليلة، التي ذكرتها سابقًا، في طفولتي. كنت أعتبر أن الهجرة تعني هي حياة غير مستقرة حتى انتهائها.
ورغم أن كثير من أصدقائي في المرحلة الجامعية كانوا يخططون للهجرة من أول سنة - معظمهم لأمريكا والبعض لبريطانيا فأنا لم أفكر فيها أبداً. اذكر منهم محمد الذي أدى امتحان المعادلة الأمريكية بعد أسبوع واحد من تخرجه، و الآن أصبح من كبار جراحي الجراحات التكميلية، كما كان يريد، في أمريكا، ولكني هاجرت وكأنه شئ مقدر علي سابقًا.
كنت رجعت من إيطاليا بعد إجازة ثلاثة أسابيع لزيارة خطيبتي الإيطالية. عرفتها في المستشفى الإيطالي وتواعدنا بالزواج في مدة الثلاث سنوات التي قضتها في مصر. لم ترد الحياة معي في مصر ورجعت لبلادها.
قلت لها أني لا أستطيع الذهاب لإيطاليا تاركًا عملي و دراستي وأهلي وبلدي، حيث كانت حياتي المهنية والمادية تتقدم بخطوات سريعة. كان مستقبلي مضمون فلماذا أغامر بالعيش في بلد آخر حيث لا أعرف أحدًا؟! واللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش!
وهكذا ودعتها على محطة قطار فينيسيا ، وهي تبكي، وبرغم وعودي بلقاء آخر كنت أكاد اجزم بأنها المرة الأخيرة التي أراها فيها.
وسافرت من إيطاليا على طائرة بلغارية إلى صوفيا عاصمة بلغاريا التي كانت مازالت شيوعية في هذا الوقت. كان علينا البقاء ليلة فيها ثم نأخذ الطائرة إلى القاهرة. ولكنا بقينا ثلاث ليالي لأن طائرة الطيران البلغاري آن ذاك كانت قديمة وحالتها تعبانة وكانت في التصليح. وكان الفندق الذي جعلونا نقيم فيه مليء ببنات الهوى. بنات جامعيات وستات بيوت اجبرهن فقر الشيوعية على بيع أجسادهن. كانت رفوف محلات صوفيا خاليةمن البضائع إلا من بضع زجاجات الخل. الشيوعية هي أبشع أيدولوجية عرفها الإنسان.
كان هذا في أوخر يونيو ١٩٩٠، و اندمجت بعدها في التحضير لامتحان ورسالة الماجيستير في أمراض الباطنية والقلب. ولكن بعدها بشهر يشاء الله أن تقدم الحكومة الإيطالية ٦ بعثات لأطباء مصريين لأخذ الدكتوراه في إيطاليا لمدة ٥ سنوات. واختارتني السفارة الايطالية، مع صديقي أخصائي الأطفال سمير جابر، للذهاب.
شعرت ساعتها أن العناية الإلهية تشاء أن أذهب لإيطاليا، وكلمت خطيبتي الايطالية، والتي تزوجتها بعد شهور قليلة من ذلك، فأحسست بأنها تطير من الفرح، ورغم ذلك فقد كنت متوترًا ومترددًا في قبول هذه البعثة. ولكن كل الاستعدادات للسفر اكتملت بسهولة و لم أفعل مجهودًا كبيرًا في التحضير للسفر. وعلمت أنه سيكون لي مرتب شهري معقول جدًا في وقتها في إيطاليا.
لم يعد عندي حجة أمام خطيبتي الإيطالية سلفانا، والتي أصبحت زوجتي وانجبت منها بنتي سارة، لم يكن أبى رحمه الله سعيدًا بهذا الزواج، فقد قال لي ستتعب، إن لهم عادات وتقاليد ودين يختلف عنا.
وصلت في منتصف ديسمبر ١٩٩٠ لميلانو الباردة المغطاة بالثلوج. كانت سلفانا تنتظرني في المطار وهي في غاية السعادة ، وركبنا القطار المتجه لمدينتها ترفيزو، بالقرب من فينيسيا والذي أخذ حوالي ٤ ساعاتً في للوصول لها. وفي القطار شعرت بالحر لأن القطار كان مدفئا بقوة، فبدأت اخلع، بعد معطفي، ثلاث طبقات من البلوفرات الصوفية ، وسط ابتسامات الحاضرين في صالون القطار. قلت لهم، فقالت لي إن درجة الحرارة ٥ تحت الصفر فاستعديت. عمومًا شعرت بالارتياح لأن رفاق القطار كانوا في غاية اللطف والاحترام معي، حتى أن فتاة قالت لسلفانا "حافظي عليه جيدًا فهو مكسب لك".
وكان في رنة كلامها شئ غير مريح، و لم أدري ساعتها لماذا قالت أنني سوف أكون مكسبًا لخطيبتي، فهل كان هناك شك في هذا؟ نعم كان هناك شك كثير، شك في سلامة الزواج من أجنبي، عربي، ومسلم. كان الرأي العام الايطالي وقتها ملئ بالخوف بل بالرعب من المسلمين ومن العرب منهم بالذات.
أحسست أن الإيطاليين يشفقون على سلفانا لأنها تزوجت من عربي مسلم. مسكينة من جعلها تحب وتتزوج من إرهابي محتمل، عنيف غير متحضر، فوق أنه كافر ومثواه الجحيم وهذا ما دفعني إلى التفكير في الدين.
و بدأت اسأل نفسي لماذا يجب أن تدخل حماتي "ديما" النار وهي التي تعمل كالنحلة من الخامسة صباحًا وحتى العاشرة مساءً في مزرعتها، و ترع عائلتها بعد موت زوجها بكل إخلاص، وتساعد القاصي والداني بكامل قدراتها؟ كانت كريمة، عطوفة، خيرة ولطيفة المعشر، واستقبلتني احسن استقبال.
لماذا يجب أن يدخل الدكتور "زانلونجو" النار وهو الذي يدور كالرحاية على قدميه طوال النهار في المستشفى لخدمة الناس ولم يخرج أبداً من بلدته الصغيرة. لماذا يجب أن تدخل راهبات المستشفى النار وهن قد تخلين عن الحياة الدنيا ويخدمون الناس جميعًا بدون مقابل. لماذا يجب أن يدخل هؤلاء النار لأنهم مسيحيون وانا الجنة لأني مسلم. كيف يستقيم هذا الفكر بطريقة منطقية؟
وبعد سنين من التفكير العميق والبحث ادركت أن الأديان على اختلافها ليست إلا سفن متنوعة الأشكال والأحجام ، تأخذ مسارات مختلفة ، ولكنها تصل جميعًا في النهاية لميناء واحد هو ميناء الخالق الواحد العظيم. الله واحد في جميع الأديان. الله، على ما يبدو لي، يحب أن يعبد في صور مختلفة وبطرق عديدة وبشعائر متنوعة.
ويحضرني هنا ما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي:
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه
فالحب ديني وإيماني


















