الكاميرا
كتب : د.صلاح شفيع
لو أن كاميرا تصورك : هل تفعل فعلاً يشينك ؟ بالقطع لا ، إن استحضارك فكرة الكاميرا تجعلك كاملاً ، تحرص أن تكون في أجمل صورة .. لو أن ابنة ذهبت للجامعة وهي تحمل فكرة الكاميرا ، أبي سمعته بالأمس يهمس لأمي سأذهب غداً إلى الجامعة لأتابع ابنتنا دون أن تدري ، فإن كانت كما أعرف فقد اطمئن قلبي .. لو أنها عرفت بذلك ستكون كما يريدها أبوها وأكثر وإن لم تكن كذلك.
فتخيلوا لو أنها تحمل أباها كل لحظة ، لو أنها تعلم أن أباها في مكان ما في كل وقت يرقبها من بعيد دون أن تراه ، لن تفعل أبداً إلا ما يرضاه أبوها ، لكانت الابنة كما يجب أن تكون ، لتصرفت بعيداً عن أبيها كأنه معها . وهذا يفوق الإيمان نفسه ، ويتجاوزه إلى الإحسان.
لو أن مخطوبة أراد خطيبها أن يستوثق منها ، لوجدها خير امرأة لو كانت تستحضر فكرة الكاميرا ، وحتى لو لم يحاول أن يستوثق ، فليس هناك فرصة لأحدهم ليخبره بما يسوؤه منها ، لو أن صديقاً سئل ما الصداقة ؟ ما كانت هناك إجابة أروع من قوله : الصداقة أن تتصرف بعيداً عن صديقك كأنه معك.
مرة وجدت رجلاً لا يعرفني ، يسلم علي بحفاوة وأنا أجلس مع صديق لي ، ثم وجدته يدعو لي ، ويتحدث عني بامتنان ، كأني صاحب فضل عليه ، ثم قدم لي نفسه على أنه جار صديقي ، واكتشفت أن صديقي أثني عليّ له ، وعلمت أن هذا الصديق في غيابي يتكلم عني أفضل مما أتكلم عن نفسي . هذا الصديق .. من يصلح أن يوقع بيننا ؟؟
إن حققت مفهوم الصداقة السابق : تصرف بعيداً عنه كأنه معك لن تخسر صديقاً ، وإن خسرت سيظل من خسرته يحترمك ، ويقول ما قابلت صديقاً في حياتي مثله ، نعم ! لأنه مهما قابل من ناسٍ لن يجد إخلاصاً كإخلاصك ، فكلما قابل أحداً : إن صنع إحساناً ذكَّره ، بك ، وإن فعل سوءاً كان صمتك يتكلم في فمه إنه لن يقابل مثلك ، وكلما قابل أحداً ازداد إيماناً بك ، وكلما مضى الزمان به ازداد اقتناعاً أنك كنت صديقه الصدوق ، لهذا عليكَ إن كنت في مجلس وتكلمت عن صديقك في غيابه ، فتكلم عنه كأنك تنظر في عينيه ، فإن يصله كلامك يزدد ثقة فيك ، وإن أساء أحدهم إليه في غيابه وصله أنك رددت غيبته.
إن كل إنسان ضنين بالخير لو علم أنه تحت أعين الناس ما وسعه إلا أن يجود بكثير من الخير ، وكذلك كل مقدم على تصرف خاطئ لو علم أنه تحت الأنظار لأحجم عن هذا التصرف غير اللائق.
إن مفهوم الكاميرا يمنعك أن تكون صغيراً عند من يراك كبيراً ، يجعلك دائماً عند حسن الظن بك ، وتلك هي المروءة في معناها الأسمى ، فالمروة أن تعجز أن تكون صغيراً ، وهل الإحسان إلا كذلك ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك .
فكيف ترى الله ؟ وهل هناك أحد رأى الله ؟؟ لابد أن ثمة كثيرين قد فعلوا ، منهم تلك الصبية التى رفضت أن تغش اللبن ، وقالت لأمها : إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا ، ومنهم هذا الفتى الذي اختبره عمر : وقال له : اذبح لنا هذه الشاه ، فقال له وهو لا يعرف : لكني مؤتمن ، فقال عمر له : قل لصاحبها أكلها الذئب ، قال : فأين الله ؟؟. ومنهم ذلك الشيخ ابن حنبل الذي يعذب ليعدل عما يؤمن به في قضية خلق القرآن ، هو يرى أن القرآن غير مخلوق ، والخليفة يصر عليه أن يعدل عن رأيه ، لأنه إن عدل عن رأيه سهل إقناع الناس بالفكرة ، لكنه يرفض ، ويجلد وهو في الثمانين من عمره حتى يشفق عليه سجانه ، فيقول له :
ـ يا شيخ ، إن جسمك نحيل لا يحتمل التعذيب ، فقل لهم ما يريدونه !
قال الشيخ الذي يرى الله :
ـ يا بني ، أينجو إمام وتهلك أمة ؟!
إن مثل هذا الشيخ يرى الله ، بل واللهِ كأنه لا يرى إلا الله ، لذلك لم يكن يرى أحداً ، كل شيء صغير ، حتى الحياة نفسها.
إن مفهوم الكاميرا يجعلك عند حسن ظن الناس بك ، وما الروعة إلا أن تكون عند حسن ظن الناس بك ، إن الله عز وجل يقول إنا عند حسن ظن عبدي بي ، ألا تحب أن تتحلى بصفة يتباهى بها ربك ؟؟
قلت مرة لتلاميذي : ما تظنون يوم القيامة وسيلة اطلاعكم على أعمالكم ؟ إنها في تخيلي ليس إلا أن تشاهده فيديو ، ولا تتعجب ، فالبشر الآن يضعون كاميرات في الشوارع يسجلون ما يتم فيها في اليوم أربع وعشرين ساعة ، فهل تظن أن البشر يصلون إلى أبعد مما يمكن أن يصل إليه يوم القيامة ؟ ألا تقولوا كما قال إمامنا متولي الشعراوي لما ذهب مع مجموعة إلى أمريكا ، ولما اقتربوا من الباب وجدوه يُفتح من نفسه ، وانبهر الناس ، فقال لهم الإمام :
ـ هذا ما أعده العباد للعباد ، فماذا عما أعده رب العباد ؟؟
لا تتعجب فما حياتك كاملة لتأخذ أي وقت يوم القيامة ، فما ستون عاماً في يوم مقداره ألف سنة .. إنك لو شاهدته كاملاً ثانية بثانية فلن تأخذ سوى ساعة ونصف من هذا اليوم . وطبعاً هناك مونتاج على أعلى درجة من الاتقان ، فهذا يعني أنك لو شاهدت اللحظات المؤثرة فحسب ، الأشياء المحسنة والمشينة ، وحذفنا النوم ، وما أشبه ، لكان عمرك كاملاً لا يزيد عن بعض ساعة.
معنى ذلك أنك في كل حركاتك مرصود صوتاً وصورة ، فالذي لا تحب أن تراه يومها ـ وما أدراك ما يومها ؟ ـ لا تفعله .
لو كل إنسان وضع نصب عينيه ذلك في أول يومه وقال : أنا الآن يتم تصويري ! ، لحرص أن تكون حياته ليست مخزناً يضم كل شيء سواء كان جميلاً وغير جميل ، لحرص أن تكون حياته هي فاترينة المحل ، هي حجرة الجلوس في المنزل ..
كان هناك شاب وسيم .. يعمل في بيع المراوح وكان يتنقل بين البيوت ويريهم المراوح التي عنده , ففي يوم من الأيام ذهب إلى بيت امرأة تعيش وحدها فلما رأته شاباً وسيماً اشترت منه مروحة ثم أخذت واحدة أخرى ثم قالت له : تعال ادخل إلى الداخل لكي أختار بنفسي ، فدخل وأقفلت الباب وقالت له : أخيِّرك بين أمرين , أن تفعل بي الفاحشة أو أصرخ حتى يسمعني الجيران وأقول لهم أنك أتيت لتفعل بي الفاحشة ، فاحتار الشاب في أمره ، لكنه علم أن هذا ليس وقت نصحها ، وتذكيرها بالله وبعذاب الفائدة ، المهم الآن أن ينجو من مصيدتها ثم سيكون في الوقت متسع للنصيحة ، لذلك تصنع الموافقة والفرح لذلك ، وقال لها : أين الحمام ؛ لكي أتنظف وأغسل جسمي ففرحت ، ودلته على الحمام فدخل وأقفل على نفسه الباب وذهب إلى مكان الغائط ووضع منه على وجهه وجسمه وقال لها : هل أنت جاهزة ؟ وكانت قد تزينت وتجهزت فقالت له : نعم ! فلما خرج لها ورأته بهذه الحالة صرخت وقالت : اخرج من هنا بسرعة , فخرج وذهب على الفور إلى بيته ـ وتنظف وسكب زجاجة من المسك على نفسه وظلت رائحة المسك فيه لم تغادره ، وإن لم يضع المسك بعد ذلك ، وكان إذا مر في السوق تنتشر رائحة المسك فيه ، ويقول الناس هذا المكان مر منه فلان وظلت رائحة المسك فيه حتى غلب عليه لقب : المسكي ، ذلك لأنه امتنع عن الفاحشة ، وقبل تلك الرائحة التي لا تحتمل فكافئه الله برائحة مسك لا تنتهي .
يوسف أيها الصديق .. كنت ترى كاميرا ربك ، ذلك البرهان إذن ، كان معك من البداية.
وأختم كلمتي بيوسف الصديق ، ذلك الذي رأى الكاميرا ، فتعفف ، فهل تظنون أن يوسف عليه السلام لم ير الله وهو يترفع عن سيدة القصر ؟ يقولون عن يوسف قد هم بها ثم رأى برهان ربه، وأقول : معني ذلك أنه لو لم يسعفه الله بهذا البرهان لفعل الفاحشة ، حاشا لله ، إن البرهان كان معه من البداية ، الله في عينيه.
ولنحلل الآية القرآنية : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24) .
إن الآية تتحدث عن اثنين بجملتين مختلفتين :
الأولى عن زليخا : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) :إن لفظ (لقد ) هي جواب قسم محذوف ، أي: والله لقد همت به ، إذن عبر النص القرآني عن موقف زليخا بالقسم أنها همت به . . والأحداث تؤكد ما فعلته :(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) .
الثانية عن يوسف عليه السلام : وعبر عنه القرآن الكريم بأسلوب شرطي مستعملاً أداة الشرط لولا .. هذه العبارة تعبر عن يوسف ، وهي مرتبطة بما بعدها دون ما قبلها ، فقوله (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه) خاصة بيوسف دون المرأة . إذن التعبير عن يوسف عليه السلام جاء في أسلوب شرط . ولا ينبغى فهم موقف يوسف إلا على أسلوب الشرط بأداته (لولا ) التى تحمل نفياً خفياً للعبارة الثانية (الجواب) ، والأمر بسيط لو وضعنا أسلوب الشرط بترتيبه :
أداة الشرط لَوْلَا
فعل الشرط أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه
جواب الشرط لهَمَّ بِهَا
لَوْلَا حرف شرط ، يقرر أمرين : وجود ما بعدها ، وعدم وجود الجملة الثانية . (أو كما يقول النحاة : امتناع الجملة الثانية لوجود الجملة الأولى ) .فإعادة كتابة أسلوب الشرط بطريقته العادية تكشف أن يوسف لم يهم بها ، لأن برهان ربه كان معه.
ولا يمكن لأحد أن يجادل لو أن جملة الشرط كتبت بطريقة عادية ( ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها )، ويثبت الهم ، لأنه مسلَّمٌ بوجود النفي الخفي في جواب (لولا) ، أي أن برهان ربه منعه من الهم بها . فهي مثل قوله تعالى في سورة النساء:( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) لولا ما بعدها موجود يمنع حدوث الجواب ، وهنا الجواب الهم ، فمعنى ذلك أن فضل الله منع همهم بالإضلال ، والمعروف أنهم لم يمتنعوا عن الهم . حاولوا لكن لم ينجحوا . هم فعلاً حاولوا ، لكن جواب (وَلَوْلَا) محذوف ، والتقدير : لقد همت طائفة منهم أن يضلوك ، ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك . وقد ذكر الزمخشري مثلاً : هممت بقتله لولا أني خفت الله ، معناه لولا أني خفت الله لقتلته . فهو هم بالقتل ، والخوف منع القتل.
ولعلك ستقول : لكان الأمر هنا مختلفاً حتى لو كان الفعل ( الهم ) متحداً ، لأن في سورة النساء جاء الأسلوب الشرطي طبيعياً .. أما في سورة يوسف فقد تقدم الجواب على فعل الشرط .. فقوله (وَهَمَّ بِهَا) دليل جواب الشرط ، فلماذا قدّمه على فعل الشرط ؟ لماذا لم يقل : ( ولولا أن رأى برهان ربه .. لهم بها )؟؟
وقبل أن أجيب عن سر تقديم جواب الشرط ، أريد أن أفرق بين الهمين .. هم امرأة العزيز ، وهم يوسف المفترض .. إن الهمَّ: ما عزمت عليه . فهو الخطوة الثانية بعد وسواس الشيطان ، فالشيطان يوسوس لك ، فإن لم تستجب ، فلا يوجد همٌّ ، فإن استجبت له فقد هممت . لتأتي الخطوة الثالثة وهي التنفيذ . ومنها جاءت الهِمة التى تذيب كل ما يقف في وجهها.
فالشيطان وسوس لها خطوة أولى ، ثم الهم منها خطوة ثانية .أما الخطوة الثالثة التنفيد فلن يتم إلا باستجابة الطرف الثاني ، أي لن يتحول الهم عندها إلى فعل إلا بموافقة الطرف الآخر ، وهي ما هي بصدده الآن ، فقد تجاوزت الخطوة الثانية إلى التنفيذ بمحاولة إثناء الطرف الثاني عن موقفه ، مما يعني أن الطرف الثاني يحمل موقفاً مغايراً لها .
أما الطرف الثاني فليس له وسوسة .. لأن وصول الطرف الأول إلى خطوته الثالث تنوب عن الوسوسة .. فلو استجاب لها .. فهو التنفيذ مباشرة .. أي أنه من المستحيل للطرف الثاني أن يكون له همٌّ ، فهي همَّت به ، ولم يتم التنفيذ ، وهو لو أنه همَّ بها لتم التنفيذ .. دلالة على أن همَّها هي محاولة ما قبل التنفيذ ، بينما همُّه هو التنفيذ نفسه . وبعد النفي اللغوي بالأسلوب الشرطي ، والنفي الفيزيائي الواقعي بصفته الطرف الثاني المعدوم الهمُّ . يتبين لنا أنه لم يهم أبداً .
أما إجابة السؤال : فلماذا قدَّم جواب الشرط ؟ ذلك ليتحول من جواب شرط إلى دليل على الجواب ، فالإجابة : ليبين أن ثباته شديد ، لأن كل الظروف كانت تشده إلى المعصية ، فقدّم ما يمكن أن يفعله أي إنسان غيره في هذه الظروف المشجعة على المعصية ليبين ثبات يوسف وأنه يفوق غيره . ولو أخَّر الجواب لكان المعني الذي يصل إلى المتلقى نفي الهم وفقط ، دون أن يبين انفراده عن الناس بهذا النفي .
لذلك لا يكون من الصواب تأخيرالجواب ، حتى لا ينصب نفي لولا الخفي على نفي الهم فحسب ، أي أنه لو يريد نفي الهم فحسب لجاء بأسلوب الشرط مرتباً . لذلك جاء تقدم الجواب ، ليكون المعني : لم يهم بها ، فلو هم بها لفعل الفاحشة لأنه لا يحتاج إلى موافقتها الموجودة مسبقاً .
وانظر إلى قوله تعالى (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) إن هذا التعبير قريب جدا من تعبير (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ). لكنه يساعدنا لأنه سبق بقول المؤمنين : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، أي أن القرآن أثبت لهم حدوث الهدى فعلاً ، ثم بعد ذلك جاء التعبير الشرطي : (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) أي لولا هذا الهدى الذى هدانا الله ما كنا لنهتدى .
وأقول لمن يقول بأن يوسف عدل عن المعصية ، تعالوا حاكموا يوسف : واصدروا الحكم بعد سماع الشهود ، كم شاهداً يكفيكم ؟ إن الشهادة باثنين .. فما رأيكم في ثمانية :
•الله عز وجل : إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ .
• إبليس : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
• نسوة المدينة : حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
•امرأة العزيز : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
•العزيز نفسه : وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
• شاهد من أهلها : وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ .
• يوسف نفسه : هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .
الملك بعد التحقيق : ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
وقد تسأل فما البرهان ؟؟ البرهان هو استحضاره لحقوق الله والناس والنفس ، البرهان معه ، كلما تعرض لمراودة يمنعه عن الاستجابة . إن محاولات زليخا السابقة على التغليق تفيد أنه لم يتفاجئ بالاختبار ، فقد مر به عدة مرات ، وفي كل مرة يرفض ، فأرادت أن تضعه أمام الأمر الواقع ، فأغلقت الباب ظناً منه أن رفضه محاولاتها السابقة لأنه يخشى أن يراه أحد فيشي به ، فهنا كأنه تقول له : إن كان رفضك السابق لأنك تخشى افتضاح أمرك فاطمئن .
إن قوله (كذلك) .. يعني كهذا التصرف نفسه وليس غيره ثبتنا يوسف ، أي أنه شبه موقف يوسف بنفسه ، ولو جاء بالواو ( وكذلك ) لكان التشبيه بمثال آخر ، لكن هنا المشبه به هو عين المشبه .
فالمعني لقد وضعناه في هذا الاختبار لنثبت صحة موقفنا في صرف السوء والفحشاء عنه . لأنه يستحق ، فهاهو لما وضع في اختبار أثبت نجاحه دون تدخل ، فكان خليقاً أن يكون من عبادنا المخلصين الذين تبرؤوا عن كل ما يباعد بينهم وبين رب العزة ، فالمخلَص بفتح اللام يعنى من صفَّى نفسه من الشوائب إلى درجة أرضت الله فاصطفاه ، وتحول من مخلص يعتصم بذاته إلى مخلَص يعصمه الله . فلا يقدر إبليس على إغوائه ، ولما أقسم إبليس بعزة الله أن يغوى عباد الله أجمعين إلا المخلصين ، فوصف الله يوسف بقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) شهادة منه عز وجل بأنه من المستثنين من إغواء إبليس .
أقول للذين يزعمون أن يوسف هم بها ، ومنعه برهان مفاجئ .. هذا يدل على الفجاءة ، كأنه فوجئ بموقفها ، فماذا لو علمتم أن يوسف تعرض لمحاولات سابقة منها ، وفي كل مرة يصون نفسه منها ، هل في المرة التي تغلق الأبواب لتضعه أمام الأمر الواقع ، يتفاجئ ، ويكاد يقع في حبائل المرأة التي رفض من قبل محاولاتها ، إن المحاولات السابقة تقطع أن يوسف عليه السلام كان يتخذ موقفاً مبدئياً لا يحتاج فيه إلى تذكير لو تم تكراره ، ومن يقرأ الآية السابقة سيعرف أن هناك عدة محاولات سابقة كلها رفضها يوسف دون أن يأتيه شيء خارجي .
ولقد راودته أكثر من مرة قبل أن تغلق الأبواب ، فمرة يقول لها : معاذ الله ، وأخرى يذكرها بسيده وأنه لا يستحق منه ذلك : إنه ربي أحسن مثواي ، وثالثة يحذرها من العاقبة : إنه لا يفلح الظالمون .
فهو لما غلَّقت الأبواب ، كان معه قرار .. ولم يتفاجئ بها ، ليحتاج عناية خارجية ، لقد غلقت الأبواب وهو حاسم قراره : لا أخون نفسي وسيدي وربي . وقد كان الفتى يدري أن مراوداتها السابقة ستنتهي إلى حجرة مغلقة لو أنه استجاب ، لكنه رفض المراودات .. أي أن الحجرة المغلقة كانت متاحة له قبل أن تتحقق له وهو يأبى ، فلما أجبر عليها أيحتاج إلى نجدة خارجية تحميه من نفسه ، أم أنه يحمل الرفض سلفاً ؟؟
وهل لو ثمة شاب جاءه خاطر : ماذا لو عرضت امرأة جميلة نفسها عليك ؟؟ وحسم قراره ، وربي لا أفعل ! ثم وجد نفسه أمام امرأة لاعوب تعرض نفسها عليه ؟؟ معه برهان ربه مسبقاً ، ولو استجاب ، فلا يعني أنه في حاجة إلى برهان ربه ليمنعه ، بل يعني أنه كان معه برهان ربه ونحاه جانباً ، وهي الفاحشة مباشرة ، فإذا جاءه برهان جديد ، فهو لعدم إكمالها .. وليس لنفي البدء فيها . فيوسف عليه السلام لما وضع في الحجرة المغلقة كان يحمل برهان ربه مسبقاً . وهو لما سئل بعدها قال ( هي راودتني عن نفسي )، وجرى منها ، وقدت قميصه من دبر ، فالحدث لم يتم ، وقد قلنا أن الهم منه أي حدوث الفاحشة .
وأقف معكم على الفعل :(وَرَاوَدَتْهُ) ويعني المطالبة بنعومة .وبصياغته على وزن المفاعلة يحمل تكرير المحاولة ، والمفاعلة هنا تشير إلى مقاومة الطرف الآخر ، فهي تراوده ، وهو يقاوم هذه المراودة.
والمراودة هي التمحُّل والرفق ، أي لجأت لاستخراج ما تريد منه بهدوء ورفق ، كمن يفتح باباً مستغلقاً ، فهو يحاول برفق مرة بعد أخرى حتى يستجيب له . وهذا يفيد أن يوسف كان أبياً ، وهي تحاول أن تأخذ بغيتها منه . وكأنك تراود صديقاً ليذهب معك إلى حفل وهو لا يريد.
واستعمل عن : للمجاوزة ، يقول ابن عاشور : « راودته مباعدة له عن نفسه ، أي بأن يجعل نفسه لها . والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن ، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة ، قاله ابن عطية ، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد ، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه . وأما تعديته ب (على) فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله ووقع في قول أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يراود عمه أبا طالب على الإسلام : وفي حديث الإسراء «فقال له موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه» « .
إن الفرق بين قولنا : راودته عن نفسه ، وروادته على نفسه :
راودته عن نفسه : استلاب نفسه بعيداً عنه .
راودني على نفسه : احتفاظه بنفسه معه.
وهذه المحاولات أكثر من واحدة قبل تغليق الأبواب ، وقد صدها في كل محاولة ، فمرة ذكرها بحق الله ( معاذ الله ) فحق الله عليه أن يتقي ناره ، وأخرى ذكرها بحق سيده ، الذي أحسن إليه فله حق ألا يخونه في امرأته ، وكأنه يقول لها في المرتين : إني أخاف الله ، ولا أخون سيدي . وفي الثالثة انتقل إلى الحق الثالث وهو حق النفس ، فعلى الإنسان أن لا يظلم ، لأن عاقبة الظلم إهلاك للنفس . وقد روي أبو ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن . فهذا الحديث يحدد دستور المسلم الصحيح ، من خلال تحديد علاقاته بالله ( أن يتقى ناره ) وعلاقته بنفسه ( هو أن يتتبع سيئاته بمقابلها ) وعلاقته بالناس أن يخالقهم بحسن خلق . وقد كان لتذكيرات يوسف عليه السلام لامرأة العزيز قبل تغليق الأبواب تطبيقاً مثالياً لدستور الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي مراعاة حق الله ، وحق الناس ، وحق النفس . ولا اختلاف إلا في الترتيب ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بحق الله ، ثم حق النفس ، ثم حق الناس ، وراعي الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لو راعي حق نفسه ، ستحسن أخلاقه ومن ثم يمكنه أن يخالق الناس بشكل حسن . أما يوسف عليه السلام ، فهو يبين التزامه بالحقوق الثلاثة ، لكنه يبين ما ينفعه : فحرصه على الآخرين يعود عليه بالنفع . لذلك بدأ ببيان حق الغير . فالرسول صلى الله عليه وسلم يحث على الالتزام الذاتي ليسود السلام الاجتماعي . ويوسف يبين أنه يجب أن يحرص على الناس حتى لا يخسر ذاتياً.
وفي الختام لم يهم يوسف بالفاحشة مطلقاً .. لأنه كان يحمل كاميرا .. برهان ربه ، يعلم أن الله يراه ، فيقول له : لن ترى مني إلا ما تحب أن تراه.


















