مذكرات مهاجر مجهول (11)
بقلم/أشرف على يعقوب
و بدأ الربيع، و الربيع في إيطاليا من اجمل الفصول، ترتفع درجة الحرارة ، و تظهر الزهور و الورود بأشكالٍ و ألوانٍ شتى في كل الحدائق و في البلكونات و ينتشر عبيرها اللطيف في هواء المدن و البيوت، و تعود أسراب الطيور من الجنوب في اتجاه شمال أوروبا و تكون في السماء تشكيلات رائعة و تملأ الآذان بتغردياتها العذبة.
و لكن هذا لا يمنع ان ينقلب الجو رأسا على عقب و حدث ان نزلت الثلوج على ميلانو في منتصف ابريل و أمطرت قطعا من الثلج في عز يونيو.
و حدثت في ذلك الوقت قصة غريبة لم ارى مثلها من قبل و تابعتها بسبب قرب تواجدي من الأحداث ليس الا. هل تذكرون الفتاة التي كانت تركب الاتوبيس معي كل يوم من نفس المحطة للذهاب ال ميلانو و تشبه خطيبتي المصرية السابقة، رأيتها عدة مرات و هي تصل للمحطة في عربة زوجها ، و في العربة طفل علي كرسي أطفال في المقعد الخلفي، قد يكون في الثالثة او الرابعة من عمره. فهمت انه زوجها و خاصة و انها كانت تحمل دبلة في يدها اليسرى ( و في إيطاليا يفعلون ذلك مثلنا في مصر، اما في بلاد شرق أوروبا فدبلة الزواج توضع في اليد اليمنى).
يبدو ان زوجها كان يوصلها الى محطة الاتوبيس ثم يوصل الطفل الى الحضانة و بعدها يذهب الى عمله.
و مع بداية الربيع بدأ يصعد معنا في الاتوبيس من نفس المحطة شاب غير ايطالي، عربي الملامح، في عمر الفتاة تقريبا. ثم بدأ يجلس الى جانبها و رأيت الحديث بينهما يبدأ بتبادل كلمات قصيرة ثم اصبح مع الأيام كلام طويل و ابتسامات مضيئة و ضحكات مكتومة.
لاحظت ان هذا الشاب هو ايضا متزوج لوجود دبلة في يده اليسرى. و كانا ينزلان في آخر الخط كما كنت افعل انا ثم يركبان مترو الإنفاق معي و ينزلان في محطة الدوومو كما كنت افعل.
و بعد حوالي أسبوعين وجدتها ينزلان من المترو معا ، ثم يضعان يداً في يد عندما وصلا لوسط البلد و يدخلان لإحدى المقاهي معا.
و كنت في وقت الغداء ، و بعد دفء الجو ، اذهب لحديقة صغيرة بجانب المستشفى لتناول غدائي المكون من ساندويتش و فاكهة و زجاجة ماء صغيرة، ثم اعود في خلال نصف ساعة للعمل في وحدة القسطرة. و في يوم من هذه الأيام و جدت الفتاة و الشاب يصلان الى نفس الحديقة ، ثم يجلسان على أريكة تكاد تكون مدارية خلف شجرة ، و هات يا بوس و احضان. دهشت و غليت دمائي الشرقية في عروقي غضبا من هذين الخائنين. و وقفت في ثورة و لسان حالي يقول "علي ان اذهب الآن و اشتمهما و هم متلبسين و اهددهما بإخبار زوجها بكل شئ". ثم تمالكت نفسي بصعوبة و جلست و قلت لنفسي "مالك انت، ما تسيب الناس في حالها، بلاش تحط نفسك في مشاكل مالهاش لازمة".
و توالت الأيام و في يوم جاءا كالمعتاد للحديقة و قد تعمقت الأحضان و طالت القبل و تزايدت جرأة الأيادي و اصبح الوضع يكاد في حكم الفعل الفاضح في وضح النهار، ثم خرجا مسرعين من الحديقة.
و في اليوم التالي لم يأتيا. و لا في الأيام التالية، رغم رؤيتي لهما في الاوتوبيس في الصباح.
و مرت نهاية الأسبوع و يوم الاثنين فوجئت بأن عربة زوج الفتاة تمر من امامي بدون توقف و بداخلها الطفل كالمعتاد ولم ارها هي. و توالت الأيام على هذا المنوال و اختفت الفتاة و لم ارها بعد ذلك و لم اعرف ماذا حدث لها و لكن من المؤكد ان عائلتها تفككت و زواجها انتهى. و حزنت، و فكرت هل نحن الغرباء في هذا البلد، او في اي بلد، الذين بصورة او اخرى احتضننا، قد اتينا لخراب البيوت و تفريق العائلات ، أم هما الشغف بالأجنبي و الافتتان بالغريب اللذان يدفعان بالانسان الى السقوط في اندفاعات عاطفية عمياء قد تنتهي بمآسي كبيرة. و قد سمعت بعد ذلك بالعديد من هذه القصص. هل المهاجرين عموماً هم مصدر خير على بلاد المهجر أم شر وخيم و خراب مستعجل؟ سأحاول الرد على هذا السؤال في هذه المذكرات.
بدأت في عمل اول دراسة لأول سنة في مسيرة الدكتوراه، و اخترت دراسة ذات موضوع جديد تماما في هذا الوقت و هو استخدام الموجات الفوق صوتية بتكنيك الدوبلر في دراسات الأوعية الدموية. كان هدف الدراسة هو تقييم فاعلية الدوبلر في تقدير نسبة الضيق في الشرايين التاجية في القلب بدقة مقارنة بتكنيك حقن الصبغة في هذه الشرايين. استطعت عمل الدراسة على ١٢ مريض، و هو عدد محترم بالنسبة لمبتدئ مثلي.
و النتيجة كانت ان تكنيك الدوبلر كان مشابه في نتائجه لنفس نتائج القسطرة بالصبغة و هذا ما يجعله بديلا لها في حالة اذا ما كان المريض عنده حساسية للصبغات.
و لكن من الناحية العملية تكنيك الدوبلر كان غالي التكلفة و يحتاج لتمرين طويل و لمهارة فائقة من الطبيب الممارس له. و فعلا تم تجاهل هذا التكنيك فيما بعد و لم يعد يستعمل اللهم الا في القليل من الدراسات العلمية البحتة.
و دخل الصيف و قررت أم صديقي التي أعيش معها (السيدة انّا) ان تذهب في اجازة لإسبانيا لمدة أسبوعيين، و قبل سفرها أوصتني ان افصل التليفزيون الصغير الوحيد، و الذي كان موضوع في المطبخ و نرى فيه معا نشرة اخبار السابعة بينما نتعشى، من الكهرباء اذا حدث رعد و برق.
و لكني للاسف لم اهتم بذلك و حدث الرعد و البرق و لم افصل التليفزيون عن الكهرباء لأنني كنت اعتقد ان السيدة تبالغ في مخاوفها و لن يحدث شئ. و لكن بينما كنت اشاهد نشرة السابعة و البرق يرعد الضاحية الصغيرة حدث ما توقعته السيدة الكريمة و احترق التليفزيون و اظلم و لم ينطق بعد ذلك. و احترت ماذا يجب ان افعل خاصة ان أم صديقي كانت ستعود في اليوم التالي.
و عادت و قلت لها الحقيقة و سامحتني على مضض، و عند عودتي بعد وقفة نهاية الأسبوع اشتريت لها تليفزيون جديد اكبر قليلا من السابق. كان التليفزيون هو تسليتها الوحيدة بعد ان زواج اولادها الثلاثة و تفرقهم في مدن شتى في شمال إيطاليا. كانت قد ترملت مبكرا و هي في عز شبابها. عرض عليها صاحب عمل زوجها الراحل ان تعمل كسكرتيرة و تأخذ نفس مرتب زوجها فوافقت على الفور و هي التي كانت ربة بيت لاتعمل عندما مات زوجها. و لكن اتضح ان صاحب العمل له أغراض اخرى غير شريفة لم تقبلها فتركت العمل معه فورا.
و تركت انّا مدينتها الأصلية شمال ميلانو لتعمل في أعمال مختلفة، منها أعمال بسيطة جدا، في ميلانو، لتعول اولادها. و استطاعت ان تربي ثلاثة رجال حتى تخرجوا و عملوا و تزوجوا، ثم تركوها وحيدة ، و بعد خروجها على المعاش فضلت ترك ميلانو و ذهبت للعيش في الضاحية التي كنا نعيش فيها. و بدأت الدراسة في الجامعة في كلية الآداب بعد خروجها على المعاش. و تخرجت منها في سن ٦٩ سنة بتقدير عالي.
و حدث ان ابنة الصحفي جارنا، و اسمها ليندا، و التي كانت في العشرينيات من عمرها، طرقت علي الباب صباحا و السيدة في اسبانيا. و كانت العلاقة بيننا سابقا عبارة عن صباح الخير مساء الخير. و دهشت، فدخلت بدون استئذان و سألتني اذا كنت أستطيع ان اسلفها ١٢٠ الف ليرة (حوالي ٦٠ يورو) لان والدها غير موجود و الأم تعيش بعيدا عنها بعد انفصال والديها، و ذلك لانها تريد ان تذهب لتجربة الهبوط بالباراشوت في صباح ذلك اليوم، و كان يوم عطلة في وسط الأسبوع. فقلت لها لا مانع فقالت لي و لماذا لا تأتي معي انت ايضا بدلا من البقاء هنا وحيداً في يوم اجازة مثل هذا. و فعلا ذهبت معها الى المطار الصغير حيث كانت تنتظرها مجموعة من الأصدقاء و جهزت هي نفسها معهم و قالت لي ان هذه هي اول مرة لها و ان غير خائفة لانه سيكون مربوط معها في نفس الباراشوت واحد مدرب و ان السقوط مع المدرب لا يلزم له اي خبرة. و عندما وصل المدرب المدير للمكان و عرفتني عليه قال لي في لهجة آمرة "جهز انت الآخر نفسك للقفز" فقلت له "شكرًا، اني لا اريد القفز". قال "لماذا؟ سوف نعمل تخفيض لك لمساعدة المهاجرين مثلك على ممارسة الرياضة". فقلت له "الف شكر، اعفيني هذه المرة" فأصر و سلط علي باقي الأصدقاء و الفتاة جارتي. و احسست انني سوف اصبح محل سخريتهم اذا استمريت على رفضي. و راودتني الشكوك في انني احضرت هنا مخصوص حتى يضحكوا علي. فقلت في نفسي سأجرب السقوط بالباراشوت، و ليكلفني ما يكلفني، حتى اريهم مدى شجاعتي. و فعلا ركبنا في طائرة صغيرة مزعجة و عندما وصلنا الى ارتفاع ٤٠٠٠ متر من الارض ربطونا، و كنا أربعة، كل واحد مع مدرب ، ربطاً محكماً، و وقفنا في طابور على باب الطائرة. و سألونا "من يقفز أولاً؟". فلم يجب احد منهم و قد بدت على وجوهم علامات الرعب الشديد. فقلت في نفسي "فرصتك" و رغم ارتعابي انا ايضا، خاصة عندما رأيت الباب يفتح و الارض تبدو بعيدة جدا و الريح يعصف بكل ملابسنا و صوت محرك الطائرة يصم الآذان، الا أني صرخت حتى يسمعونني "انا". و فجأةً قفز المدرب المربوط بي الى الفراغ بدون النظر اليّ فسحبني معه الى الهاوية و سقطنا سقوطاً حراً مروعاً مفزعاً في البداية فأحسست ان قلبي سيقف و لكن بعد لحظات فتح الباراشوت الهائل و بدأنا ننزل بهدوء ففتحت عيناي و دهشت لمدى جمال الطبيعة من حولي و الإحساس بالحرية و الانطلاق و السلام و كأنني طائر مقدس يسبح في ملكوت الله. و استمتعت جدا بالدقائق القليلة التي قضيتها بين السماء و الارض و تمنيت ان يطول الوقت بنا و نحن نطير في هذه السماء الواسعة. و رغم الهبدة الجامدة التي شعرت بها عند الوصول للأرض الا انني كنت في غاية السعادة. و عرفت بعد ذلك ان الثلاثة الإخرين كانوا يصرخون من الرعب طوال لحظات هبوطهم. و عندما رجعنا للمطار هنأني المدرب الكبير على شجاعتي بينما أخذ يسخر من الآخرين، و روحت مع ليندا و انا سعيد جدا، اما هي فكانت مكشرة و بوزها شبرين و لم اعرف لماذا كانت غاضبة و مكتومة هكذا.


















