في استراحة الجمعة محسن طاحون يكتب عن "الوفاء"

قال الإمام الشافعي : 

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا .. وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا

وَنَهج وذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ..وَلَونَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ ..وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا .. 

إن الزمان في نفسه ليس به عيب ، ولاهو أهل لأن يذم ؛ إنما مرد العيب والذم لأفعال الناس وأخلاقهم ، فللأسف نحن في زمن قل فيه الوفاء في مجالات شتى .. فهذا رجل استدان مبلغ من صديق له اوقريب ووعد بالسداد .. ولكنه لم يوفي بوعده .. وهذا انسان كان يمر بموقف ما وتحمس وندر نذر اذا ما تحقق ما يصبواليه .. ويتحقق هدفه ولكنه لا يفي بما نذر به.

 وهذا إنسان تعاقد مع الغير على شيء ولكنه نكث ولم يوفي بما جاء في العقد .. وهذا زوج عقد قرانه وعند الاختلاف يتجبر ويصر على عدم الوفاء بما جاء في عقد الزواج... وهذا رب عمل يعمل الناس لصالحه ويضن عليهم برواتبهم وحقوقهم. 

اعلم أيها الإنسان أن الوفاء هو أساس العلاقات الإنسانية، فهو أساس الصداقة واساس الحب وأساس أي علاقة كانت في الحياة .. والوفاء من شيم الكرام .. فالكريم إذا وعد وفى... والغدر من صفات اللئام... ووعد بلا وفاء عداوة بلا سبب. 

والوفاء هو تلك العملة النادرة التي لا تتعامل بها إلّا القلوب الطيبة وأهل الذوق الراقي ، والوفاء هو صدق القول والفعل، والوفاء أصل الصدق. فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء. والوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول. 

والوفاء صفة إنسانية جميلة، عندما يبلغها الإنسان بمشاعره وأحاسيسه فإنه يصل لأحد مراحل بلوغ النفس البشرية لفضائلها .

ورُبَّ رجل وسيم غير محبوب ..

ورُبَّ رجل وسيم محبوب غير مهيب ..

ورُبََّ رجل وسيم يحبه الناس ويهابونه وهو لا يحب الناس ولا يعطف عليهم ولا يبادلهم الوفاء .. والإنسان دون وفاء وإخلاص، للأسف الشديد جسم بلا قلب...فما أبغض الحياة على هذا الكوكب إذا غاب الوفاء عن قلوب البشر وسادت الخيانة والأنانية ..

والوفاء مع الناس يأتي في كل الظروف وليس كمداهنة ونفاق وقت وجود الأشخاص في مناصبهم، وإنما الوفاء يبقى مع الطيبين الأخيار حتى ولو جار الزمان عليهم ووقعوا بالمحن والشدائد.

وللوفــــاء معـــاني كثيرة نذكر منها : 

الوفاء بالدين 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِذَلِكَ مِنْ قَضَاءٍ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ إِنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَامَ فَقَالَ أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِه)).مسند الإمام أحمد

الوفاء بالنذر 

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّهُ قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْفِ نَذْرَكَ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً)) (صحيح البخاري)فمن المهم جداً ان نوفي بالنذر طالما نذرنا شيء. 

الوفاء بالعقود

قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)) ~[المائدة: 1]

الوفاء بشروط عقد النكاح

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (21) ﴾ "سورة النساء"وقال رسول الله صلَّ الله عليه وسلم : ((أحقُّ الشروط أن توفوا به، ما استحللتُم به الفروج)).

والزواج هو أكبر عهد وميثاق بين إنساني ولكن للاسف بعض الناس اذا اختلفوا لا يتقون الله في تصرفاتهم .. بل يتصرفون بحماقة ضاربين عرض الحائط بالاسلام وبما جاء في كتاب الله في هذا الخصوص ويقطعون بعضهم البعض وقد تصل الامور الى الشرطة والمحاكم .

الوفاء بإعطاء الأجير أجره 

عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رسول الله صل الله عليه وسلم : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه))البعض يأتي بمن يعمل لصالحه وعند سداد مقابل العمل يتخلى عن الوفاء بالمقابل فتجده يناور ويفاصل ويؤذي العامل وينسى ان الله قد يتسامح في حقه ولكنه لا يتسامح في حق العباد .. 

ويحضرنا قول بعض المشاهير عن الوفاء ..

فعن الأصمعي قال: (إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه).

وقال ابن حزم: (إنَّ من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق... الوفاء؛ وإنَّه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهويتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات... وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب... لا يحول عنه إلا خبيث المحتد، لا خلاق له ولا خير عنده).

وفي الختام نقول إن في زمن اللاوفاء الذي نعيشه الآن تتكشف حقائق البشر وتنزاح الأقنعة عند حدوث المواقف، وتتضح معادن الرجال وتظهر على واقعها الحقيقي إن كانت التنشئة في بيئة صحية نظيفة أوبيئة عفنة مريضة!!

ولنعلم ان من فُقِدَ عنده الوفاء فقد انسلخ من إنسانيته، فقد جعل الله الوفاء قواماً لصلاح أمور الناس.

وقد قال الله عز وجل: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}.الآية 34 سورة الإسراء.وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ 

وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} الآية 40 سورة البقرة.

أما من يتحلون بالوفاء ..  

فهذه دلالة راسخة على قوة الشخصية وبعدها عن المصلحية والانتهازية والوصولية والنفعية والطمعية والحسدية، والإنسان الوفي هو محل ثقة بين الناس، يحبونه ويجلونه، ويقبلون على معاملته، ولا يرتابون بوعده وعهده، وهذا نصر عظيم لا يناله إلا الأوفياء .. فكونوا دائما من أهل الوفاء..

محسن طاحون