مذكرات مهاجر مجهول (17).........بقلم اشرف على يعقوب
و حدث في هذه الفترة ان زارتنا الراهبة الايطالية جيوزبينا و التي عملت في المستشفى الايطالي بالعباسية لسنوات طويلة جدا. كانت من اصغر الراهبات سنا و كانت من بلدة قريبة من بلدة زوجتي و كانت تتكلم بنفس لهجتها و لذلك اصبحتا صديقتان بسرعة في الفترة التي عملت فيها زوجتي في مصر.
كانت الاخت جيوزبينا من اجمل خلق الله و كانت طبيعتها لطيفة لا يوجد فيها التحفظ الشديد و الجفاء الذي يوجد في الراهبات الاخريات. و عندما كانت تراني متعبا كانت تشير لي بيدها أن تعالى الى غرفتي و عندما اصل تقول لي " دكتور اشرف انا شايفة انك تعبان قوي في الشغل، انت تشتغل كتير قوي و انا عملت لك "زابايوني" عشان يديك قوة". هذا الزايايوني هو عبارة عن خليط من صفار البيض و السكر و شراب كحولي قوي مثل النبيذ القوي أو الجرابّا، و اصله من كرواتيا، و كانت تعمله لي بدون اضافة اي كحول لأني مسلم لا اشرب الخمور. و كانت تستعيض عن الكحول بالقهوة الاسبرسو الايطالي القوية جدا. و كنت آكل هذا الزابايوتي بالمعلقة و اشعر بعدها انني مثل خيول السباق من الطاقة الهائلة التي يطلقها في الجسم.
كانت جيوزبينا محبوبة من الجميع و اتذكر انها قالت لي عندما رايتها تشرب من ثلاجة المياه ذات الحنفية انها عندما تشرب من هذه الثلاجة تغلق عينيها و تشرب الماء من كف يديها و تتذكر جداول المياه الباردة التي تتدفق على تلال بلدتها بالقرب من مدينة "فيتشينسا" القريبة من ترفيزو.
و من قواعد الفاتيكان انهم كانوا يعطون الرهبان العاملين في خارج بلادهم اجازة شهر كل اربع سنوات. و كانت الاخت جيوزبينا في اجازتها عندما حضرت لزياراتنا في ترفيزو. و كانت هذه هي آخر مرة تعود فيها ، حية، اذ علمت بشديد من الحزن، انها ماتت في مصر بعد حوالي سنةً من مضاعفات مرض سرطاني سريع و شديد العنف.
و بمناسبة كرواتيا، البلد الاصلي للزابايوني، اتحدث لكم عن الاب الكرواتي "ستانكوفيتش " الذي عمل في مصر ، في الاسكندرية بالتحديد، طوال حياته المديدة التي استمرت لمدة ٩٨ عاما. عرفت الاب "ستانكوفيتش" عندما وضعت وضعت له منبض لتنظيم ضربات القلب. كان عمره وقتها ٨٥ عاما و كان قد قضى في مصر ٦٥ عاما.
قال لي، و انا اقطع جلد صدره لوضع المنبض تحته، انه يشعر و كأنه "القديس ماركو انطونيو براجادين" الذي سلخه الاتراك حيا في قبرص سنة ١٥٧١. فقلت له انا من أصل تركي ، و ضحكنا من قلوبنا بينما كان هو يتلو صلاواته الاخيرة.
ذهبت لزيارة الاب ستانكوفيتش في مقر اقامته في الاسكندرية و عزمني على اكلة سمك طبختها "البربتوا" المصرية التي كانت تقوم على خدمته. و البربتوا في مصطلحات الكنيسة الكاثوليكية هو سيدة تعمل تطوعيا على خدمة الاب الذي يرعى كنسية منطقتها. و تكون كزوجته تقريبا فيما عادا العلاقة الحميمة. و من المعروف أن الرهبان الكاثوليك ليس لهم حق في الزواج، بل و قد اقسموا قسم العفة طوال الحياة. و بالطبع حدث كثيرا ان اصبحت البربتوا زوجة فعلية للقسيس الذي تخدمه ، و حدث ان كثير من الرهبان تركوا الرهبنة للزواج أو كانت لهم زوجات في السر. و تعاني الكنيسة الكاثوليكية من حوادث الاعتداء على الاطفال الذين يذهبون للكنسية لتعلم دينهم فيتم اغتصابهم من الاب الذي كان مفروضا ان يعلمهم الدين و العفة و الطهارة.
المهم أن اكلة السمك الاسكندرانية كانت فخمة و لذيذة جدا ، و حكي لي الاب ستانكوفيتش ان قضى احلى ايام حياته في اسكندرية الثلاثينيات و الاربعينيات و حكى لي عن رحلات صيد الغزلان في الصحراء القريبة من الاسكندرية و مباريات صيد الاسماك في المكس.
كان قد وصل الى مصر في العشرين من عمره. و قيل له ان الهدف الاساسي لوجوده في هذا البلد هو التبشير للكاثوليكية. و قيل له ايضا ان التبشير للكاثوليكية يشمل ايضا الاقباط الارثوذوكس و ليس المسلمين فقط. و من خبرة من سبقه لاحظ ان المسلمين صعب تغيير دينهم و من غيروه كان عددهم قليل جدا ، اما الارثوذوكس فيسهل تغيرهم لمذهبهم لتشدد الكنيسة المصرية حسب قوله. و كنت اقول له :" لماذا التبشير اصلا، لماذا تحاولون تغيير عقائد الناس؟ و هم غالبا لا يطلبون ذلك منكم". قال "ان الكثير من الناس لا يشعرون بالانتماء لعقيدة آبائهم، و ان هؤلاء يحتاجون اشد الحاجة لمن يدلهم على عقيدة يستريحون لها، و ان هذا هو عمله".
و حكي لي ايضا هذه الحكاية المصرية التي حدثت في العشريات، في اوائل سنين اقامته في مصر :
جرجس كان في الثامنة عشرة من عمره عندما دخل على الاب ستانكوفيتش في كنيسته في الاسكندرية في اواخر العشرينات من القرن الماضي. كانت حركة التبشير قوية جدا في مصر في تلك السنين. و جرجس كان قد حضر للعمل في الاسكندرية مع اخيه بطرس من قلب الصعيد الجواني. كان بطرس يكبره بسبع سنوات ، و كان بينهما اخت ماتت و هي رضيعة في مهدها.
ماتت ام جرجس و هي تلده اما والده فكان لا يكاد يفيق من الخمور و المخدرات، فكان على بطرس الصغير ان يحمل اخاه الوليد و يطوف به على نساء القرية ممن يرضعن لتلقي رضعة هنا و رضعة هناك.
و بعد شهور قليلة مات الاب ايضا متأثرا بادماناته، و بقى الصغيران وحيدان بلا سند في هذا العالم. تكفلت بهما الكنيسة بضع سنوات و لكنهما ذاقا الامرين في السنوات التي قضياها في مؤسسات الأيتام. و اخيرا هربا معا الى الاسكندرية و عملا في مجال المعمار كفواعلية. كانا يسكنان في عشة و كانا ينجحان في اكتساب قدر زهيد من المال كان كافيا للحياة البسيطة التي كانا يعيشاها.
و عندما بلغ جرجس الثامنة عشر احس بجوع روحي شديد و لم يرد ان يذهب للكنيسة القبطية لما كان له من ذكريات سيئة من أيام الطفولة، و ذهب للكنيسة الكاثوليكية التبشيرية. هناك التقى بالاب ستانكوفيتش و الذي كان من سنه تقريبا. تعاطف الاب معه و بدأ جرجس في الذهاب لهذه الكنيسة بصورة منتظمة، لكن بدون ان يخبر اخيه.
و بعد سنتين فوجئ ان اخيه بطرس قد قرر الزواج، فسأله عن نفسه فقال: ستبقى معنا، سوف نأخذ شقة اكبر من عشتنا و نعيش معا حتى تتزوج انت الآخر.
و فعلا هذا ما حدث. و كان الاخوين سعيدان باللمسة اللطيفة الانثوية التي اضافتها بشرى زوجة بطرس على حياتهم الجافة.
و لكن الشيطان كان بالمرصاد. كانت تمر ساعات طويلة يكون فيها جرجس و بشرى وحدهما في الشقة حيث ان بطرس كان قد اخذ عادات والده في الذهاب الى الخمارات و بيوت الهوى التي كانت منتشرة انتشارا كبيرا في مصر في ذلك الوقت.
و انتهى الامر بجرجس و بشرى الى علاقة محرمة حاول بطرس ان يقاومها بكل ما فيه من قوة و لكنه لم ينجح.
و حدث ان عاد بطرس الى الشقة في يوم اسود فوجد زوجته و اخيه في الفراش معا. استطاع جرجس ان يهرب بصعوبة و ذهب عند ستانكوفيتش و اختبئ عنده، و عرف فيما بعد ان بطرس أكتفى بضرب زوجته ضربا مبرحا و لكنه لم يقتلها. و السبب ان بشرى كانت امرأة قوية الجسم و الشخصية و استطاعت بطريقة ما ان تروض زوجها حتى غفر لها هذه الحادثة. بل إن بطرس ظل يبحث عن اخيه لسنوات طوال بعد ذلك، و كان يبكي عندما يتذكره.
اما جرجس فقد تحول للكاثوليكية بالكامل و ترهبن و هربه الاب ستانكوفيتش الى ايطاليا حيث فُقد اثره بعد سنوات.
و هناك الكثير من هذه القصص المشابهة و قد يأتي من يكون له رغبة في دراستها و هي جزء مهم من تاريخ مصر الحديث.
و من الشخصيات التي لا انساها في ملجأ كبار السن الايطاليين الذي يوجد داخل المستشفى الإيطالي في العباسية الكهربائي العجوز جيجي. جيجي ولد في مصر في أوائل القرن العشرين من ابوين ايطاليين هاجرا لمصر بسبب الفقر الاسود الذي كان في ايطاليا حين ذلك. لم يخرج من مصر طيلة حياته و لم يرى ايطاليا الا في الصور. و رغم ذلك كان إيطاليّاً شديد الوطنية، و كان صديقاً شخصيا لبوللي الإيطالي الشهير الذي كان يعمل في معية الملك فاروق، و الذي كان هو ايضا كهربائي الصنعة.
عندما كنا نقابله في طرقات المستشفى كان يحيينا بالتحية الفاشية و هي رفع الذراع الايمن ممتدا عاليا مع ضرب الاقدام في الارض و كأنها تحية عسكرية. كنا عندما ندخل غرفته نرى صور موسيليني تملأ كل حوائطها. كان فاشياً من الدرجة الاولى. و حكى لنا انه قد اعتقل بواسطة الانجليز اثناء الحرب العالمية الثانية و حجز في معكسر انجليزي في صحراء مصر الجديدة. و كان يقول ان جنديا انجليزيا حاول الاعتداء عليه جنسيا فقتله و هرب الى ارياف الشرقية فخبأه الاهالي في عشة في الغيطان حتى انتهت الحرب. و لم يكن لدينا وقت و لا وسيلة للتحقق من هذه القصة بالطبع و لكنها كانت مسلية. لم يتزوج جيجي و عندما توقف عن العمل لظروف صحية و لكبر سنه قبلته الراهبات في بيت المسنين و عاش فيه حتى مات و دفن في مقابر الطلاينة في القاهرة.
و الشخصية الاخرى هي مارجريتا أو "كاتانيا". ولدت هي الاخرى في مصر في أوائل القرن العشرين من أبوين إيطاليين هاجرا من جزيرة صقلية. ولدت في بورسعيد حيث كان ابوها يعمل في الميناء. و كانوا يسمونها "كاتانيا" على اسم المدينة الصقلية الجميلة التي هاجر منها الأبوين.
مات الاب و هي في سن المراهقة و تدهورت حالة الأسرة ماليًا فعملت كخادمة في بيت ضابط انجليزي في بورسعيد.
هناك تعرفت على ضابط إنجليزي آخر شاب احبها و بادلته الحب و لكنه نقل الى الهند فجأة و تركها حامل في شهرين. ذهبت مع امها لاحدى اليونانيات في بورسعيد و اجهضت في عملية بدائية بشعة كادت تودي بحياتها. و حصل لها اكتئاب شديد فقررت دخول الدير و الترهبن. و لكن امها رفضت ذلك تماما و قالت لها :"انني افضل أن تكوني عاهرة على أن تكوني راهبة و يضيع عمرك سدى في خدمة الرهبان و أوباش الناس".
و فعلا و تحقيقا لرغبة والدتها رحلت الى القاهرة و عملت في بيوت الهوى التي كانت مقننة في ذلك الوقت و حتى سنة ١٩٤٩ حين اغلقتها الحكومة المصرية و وزعت النساء اللآتي كن يعملن فيها على المستشفيات للعمل كتمرجيات. و عملت هي فعلا في عدة مستشفيات خاصة حتي طلعت معاش و دخلت الملجأ في المستشفى الايطالي لعدم وجود عائلة لها فهي لم تتزوج طيلة حياتها.
كانت في منتهى الظرف و خفة الدم و كانت دائبة الدوار في كل انحاء المستشفى تقول نكت و تهزر مع الكل و تضحك بصوت عالي و ببحة مميزة نتيجة تدخينها المستمر للسجائر. و كانت من عادتها ان تطلب منك سيجارة و عندما كنت تخرج العلبة كانت تخطفها كلها منك و تهرول بعيدا و هي تضحك، فلا تملك نفسك الا أن تضحك انت ايضا و تستعوض الله في علبة سجائرك.بقلم اشرف على يعقوب


















