مذكرات مهاجر مجهول (18)
بقلم: أشرف على يعقوب
و بدأت اتعرف اكثر على المجتمع و الواقع الايطالي. و أكثر ما شد انتباهي في هذا المجتمع، الذي كان غريباً عني، هو الواقع السياسي. تكونت في ايطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ما سمي فيما بعد بالجمهورية الاولى. ايطاليا كانت ملكية و لكن في استفتاء عام تم في عام ١٩٤٦ اختار الايطاليون النظام الجمهوري، و بعدها كُتب الدستور الايطالي الحديث بواسطة من عرفوا بعد ذلك بالآباء الدستوريين ، و هم مجموعة غير متجانسة من اعضاء اول برلمان انتخب بعد الحرب و كان يسمى ب"المجلس الدستوري ". تم انتخاب هذا المجلس في نفس يوم الاستفتاء السابق ذكره و هو يوم ٢ يونيو ١٩٤٦. ترك الملك "امبرتو الثاني" البلاد بعد عشرة أيام و نفى نفسه في البرتغال، تاركا الحكم لحكومة مؤقتة.
و اصبح من حق أي مواطن في ايطاليا انشاء حزب سياسي، يدعو المواطنين لانتخابه، بهدف الوصول الى سلطة الحكم.
و تكونت بعد ذلك عدة احزاب سياسية في ايطاليا ، اهمها كان الحزب الديموقراطي المسيحي ، و الحزب الشيوعى و الحزب الاشتراكي و الحزب الليبرالي. و توالت الحكومات بعد ذلك عديدة، قصيرة المدة، و لكن لم تحدث أي فوضى تذكر. كانت تجربة الديكتاتورية الفاشية المؤلمة قد جعلت الشعب الايطالي راغبا في حياة ديموقراطية سليمة و اراد ان يحافظ عليها بكل قوته.
و في اوائل التسعينات عندما وصلت لايطاليا كان هناك العديد من الاحزاب السياسية، بعضها كان صغير الحجم جدا. كان من حق أي فرد ان يكون، حتى من اصدقاء البار، حزب سياسي له الحق في دعم مالي حكومي من الدولة، بأي فكر سياسي او اجتماعي ، و بأي اسم يراه. و من الاسماء الطريفة نجد حزب الحب و حزب غصن الزيتون و حزب هيا يا ايطاليا و حزب اخوة ايطاليا و حزب الخمس نجوم، حزب اصحاب المعاشات و حزب ربات البيوت، حزب اليمين، حزب الشمال، الحزب الحيواني الايطالي، حزب القرصان، حزب التفكير و العمل، حزب العائلة و غيرهم كثير.
و هكذا يصبح الشخص المجهول قائد سياسي و زعيم حزب و قد يحصل على مقعد في البرلمان حتى و ان كان هو الوحيد الذي تم انتخابه من اعضاء حزبه. و هذا طبعا كان يؤدي لتفتيت اصوات المقترعين و لصعوبة تكوين الحكومات الإتلافية و سهولة سقوطها بعد ذلك. و اخيرا اقروا قانوناً يمنع الدخول للبرلمان للاحزاب التي حصلت على اقل من خمسة في المئة من عدد اصوات الناخبين.
كانت الاحزاب الصغيرة من الكثرة حتى و انها سميت بالاعشاب، تحت الاشجار الكبيرة من الاحزاب الكبيرة مثل الحزب الديموقراطي المسيحي و الحزب الاشتراكي و الحزب الشيوعي.
و حاولت ان افهم ما هو الفرق الحقيقي بين هذه الافكار و المعتقدات السياسية و التي على اساسها تكونت اهم التيارات السياسية و الاحزاب التي لها وزنها.
و بعد مدة و تجارب مختلفة و تفكير عميق اعتقد انني فهمت ما هو الفرق بين الفرق المتعددة.
و لتسهيل فكرتي عليكم تعالوا نتخيل ان عندنا سجن كبير فيه عدد هائل من المجرمين من مختلف الأعراق و الالوان و الديانات، و الذين فاض عددهم على امكانيات السجن من غرف و مرافق و ملابس و طعام و خلافه.
كان من المحتم ان يخفف عدد المساجين بطريقة او بأخرى. و هنا سوف اشرح لكم ماذا سيقرره اذا كان مدير القسم من حزب أو آخر لحل هذه المشكلة:
- اذا كان من الحزب الشيوعى فسوف يقرر تخفيف عدد المساجين بقتل الاغنياء البرجوازيين.
-و اذا كان من الحزب الاشتراكي فسوف يخفف عدد المساجين بإطلاق سراح الفقراء منهم.
- و اذا كان من الحزب الرأسمالي فسوف يطلق سراح من يدفع له مبلغ معين.
- و اذا كان من الحزب الاسلامي فسوف يطلق سراح المسلمين.
-و اذا كان مسيحيا فسوف يطلق سراح المسحيين.
- و اذا كان من الحزب الراديكالي فسوف يطلق سراح الجميع و يخلي السجن.
- و اذا كان من الحزب القومي او الوطني فسوف يقتل الأجانب.
- و اذا كان من الحزب الفاشي او النازي فسوف يقتل السود و اليهود و المثليين و المعوقين الغير قادريين على العمل.
- و اذا كان من حزب الخضر فسوف يطلق من يعده بالحفاظ على البيئة.
- و اذا كان من الحزب الليبرالي ، اي الحزب الذي هو متحرر من أي معتقد سياسي او ديني او اجتماعي و يؤمن بالبراجماتية أو العملية في حل المشكلات، فسوف يطلق سراح من يعتقد انه مفيد للمجتمع.
هذا كله بصرف النظر عن ما فعله المجرم المسجون و ما عليه من حكم و كم قضى من مدته.
و في بداية التسعينات ظهر حزب مكون من بعض سكان شمال ايطاليا ، سموه "رابطة الشمال "، و كان هدفه الاساسي هو الانفصال عن ايطاليا و تكون دولة في الشمال اسموها"بادانيا".
و هذا الكره الغريب الذي يكنه الشماليون تجاه سكان جنوب ايطاليا هو كره قديم جدا. يعتقد سكان شمال ايطاليا ان الجنوبيين هم اناس متخلفون كسالى لا يحبون العمل و يعيشون على قفا الشماليين.
كان اعضاء حزب رابطة الشمال يعتقدون ان السياسيين في روما هم في الواقع لصوص يسرقون الضرائب التي يدفعها العمال الكادحون في الشمال. و كان شعارهم ان "روما اكبر سارقة". نجح هذا الحزب العنصري في الوصول الى مقاعد كثيرة في برلمان روما، و بدأ اعضاؤه يستمتعون بالمرتبات البرلمانية العالية و كل المميزات و الإعفاءات الاخري التي يحصل عليها اعضاء البرلمان الايطالي.
و هذا ما جعلهم يندمجون في "اللصوص" بل و أن يتفوقوا عليهم في النصب على الناخبين و ابتزاز اموال الناس. و هنا غيروا اهدافهم و اصبح هدفهم المعلن هو طرد الاجانب المهاجرين لايطاليا. و اظهروا اشد الكره و العداء للوافدين و اللاجئين و خاصة السود و المسلمين منهم. و بهذا استطاعوا ان يجتذبوا لجانبهم اعداداً مليونية من الناخبين حتى من اهل الجنوب الذين كانوا يكرهونهم اشد الكره.
و قررت ان انزل الى الحقول السياسية الايطالية بعد حصولي على الجنسية الايطالية و سجلت اسمي في الحزب الديموقراطي اليساري و اخذت بطاقتهم و بدأت احضر اجتماعاتهم في منطقة سكني. كان هذا الحزب هو الوحيد تقريبًا الذي اقنعني بصدق اعضائه و سلامة تفكيرهم و وضوح اهدافهم. و كان هو الحزب الوحيد الذي يرحب بالمهاجرين و يعتبرهم ثروة كبيرة لايطاليا.
و مع تقدم حمل زوجتي ادركت انني يجب ان انقل نفسي لجامعة بادوفا القريبة من منزلي لاكون بالقرب منها و من الطفل القادم، و لم يكن هذا سهلا!!!
