علبة البسكويت
دكتور صلاح شفيع
كانت تنتظر طائرتها ، وقد أمسكت كتاباً تقرأ فيه ، وفي الوقت نفسه ، تأكل من علبة البسكويت ، كان يجلس بجوارها رجل يقرأ كتاباً أيضاً ، لما بدأت بتناول أول قطعة بسكويت من العلبة ، فوجئت كأن الرجل يقلدها ، تقرأ كتاباً ، يقرأ كتاباً ، تتناول قطعة بسكويت ، يتناول أيضاً قطعة بسكويت من نفس علبتها .
يريد أن يبدو ظريفاً ، ليجر الكلام معها ، لا ، ستفوت الفرصة عليه ، كأنه ليس موجوداً ، تناولت قطعة أخرى ، ولم تكد تضعها بين شفتيها ، حتى وجدته يفعلها مجدداً ، تخشى أن توقفها بين شفتيها ، فيتوقف هو أيضاً ، استمرت في التجاهل ، ومدت يدها إلى العلبة لتتناول قطعة ثالثة ، وأيضاً قلدها في ذلك ، كأنه يمارس دور الصدى للصوت ، كانت العلبة سبع قطع ، ولم يبق إلا قطعة .. فهل ستغلبه وقاحته ، ويؤثر نفسه بالقطعة الفردية ، مدت يدها إلى القطعة الوحيدة ، وجدته يسبقها إلى القطعة ، ويكسرها نصفين ، ويضع نصفاً لها في العلبة ، ويأكل النصف الآخر ، اشتد غيظها من هذا الدخيل قليل الذوق ، لكنها قررت أن تستمر في تجاهله . تركت له المكان ونصف القعدة ، ومضت إلى مكان آخر .
لما ركبت الطائرة ، وفتحت شنطتها ، وجدت علبة البسويت الخاصة بها كما هي ، واكتشفت أن الرجل كان يأكل من علبته هو ، وأنها التي كانت تقتحم خصوصيته وتشاركه علبته الخاصة . خجلت من نفسها ، فلم يكن الرجل قليل الذوق كما ظنت ، بل كان كريماً ، تركها تشاركه علبته ، ولما بقيت قطعة واحدة قسمها بينهما ، شعرت بالخحل ، ودت لو تقف في الطائرة ، وتنادي :
ـ يا صاحب علبة البسكويت ..
قبل أن تفتح الكتاب مرة أخرى .. وجدت من بجوارها يمد يده إليه بنصف قطعة البسكويت ، لا يمكنها أن ترفع وجهها إليه ، تريد أن تقول له :
ـ أوه ، آسفة .. ! يا لها من صدفة أن تكون بجانبي !
لكنها لم تستطع أن تقول شيئاً ، فرحة أنه بجوارها ، وخجلة من نفسها أمامها .. قال لها :
ـ الحياة رحلة يلتقي فيها اثنان على غير انتظار ويتقاسمان فيها علبة بسكويت يقول لها .. تتزوجيني !
أخرجت علبة بسكويتها ، وفتحتها ، وتناولت قطعة منها ..
ـ إذن موافقة !
ظلت بعد الزواج ، يمازحها :
ـ ما كل قلة الذوق هذه ؟ تتناولين ثلاث قطع كاملة من علبة البسكويت خاصتي .. لا .. وأنت من تبدأين .. كأنك تظنين أنها خاصتك !
ـ والله .. كنت أظنها علبتي !
ـ العلبة وصاحبها خاصتك ! لكنك لا تنكرين أنكِ تسرعت في الحكم عليَّ !
ـ وأنت تسرعت بطلب يدي !
ـ ومن يرفض عروساً مهرها علبة بسكويت !
ـ أغلى علبة بسكويت !!
ومدت يدها في جيبه ، فأخرجت العلبة ، فقد دأب أن يحضر ذات العلبة كل يوم ، من أجل أن يتقاسما القطعة الأخيرة .
لا تتعجل كما تعجل الحطاب الذي كان يترك طفله في حراسة كلبه الوفي ، حتى كان يوم سمع نباح الكلب من بعيد على غير عادته ، ولما وصل إلى الكوخ وجد الكلب ينبح بغرابه قرب الكوخ وكان فمه ووجهه ملطخين بالدماء.. لم ينتظر الحطاب إذ ضرب الكلب بفأسه بين عينيه ، فقد ظن أن الكلب قد افترس ابنه ، بينهما الحقيقة كانت غير ذلك تماما ثمة حية كادت تهاجم الطفل فتصدى لها الكلب وخاض معها معركة شرسة ، تمكن فيها من القضاء عليها لينقذ ابن سيده في غيابه ضاربا المثل في الوفاء ، فقابله سيده بعكس ما كان يستحق تماما ولم يكد الحطاب يدخل إلى كوخه ، ويرى طفله على السرير وقريبا منه تتمدد حية هائلة مخصبة بدمائها حتى فهم الصنيع العظيم الذي فعله الكلب الوفي.
لا تتعجل باتهام الآخر بأنه على خطأ لأنك على صواب ، فقد يكون كلاكما صواب ، نعم هناك حالات يكون فيها المختلفان على صواب ، ذلك إذا اختلف زمان الحكم أو مكانه جاز أن يختلفا ويكونا في الوقت نفسه صحيحين . فأما اختلاف المكان : فلو انطلق أربعة من العميان ولمس كل منهما الفيل فجاءت إجابة كل منهم مختلفة عن الآخر وكل منهم صادق فيما يقول لأن كل منهم يصف المكان الذي لمسه، وأما اختلاف الزمان : إذا هب أربعة، كل منهم في فصل من فصول السنة لرؤية شجرة مثمرة فستأتي إجابة كل منهم مختلفة عن الآخر وكل منهم صادق لأن الشجرة ذاتها تختلف باختلاف الفصول.
الكل ينظر إلى شجرة واحدة لكن كل منهم ينظر إليها في وقت غير الآخر فتظهر لكل واحد بطريقة مختلفة عن التي ظهرت بها لغيره.
في الأساطير اليونانية نرى الملك الذي ظل ينتظر ابنه بفارغ الصبر ، لم يره وفي أول يوم يراه تكون المملكة على موعد مع دفع الجزية عشر شباب من شبابها فيصر أن يكون منهم حاول أن يثنيه لكنه وعده خيرا، سيرجع ويقتل الوحش ويجلس الأب على شط البحر ينتظر ابنه ، الذي اتفق معه أن يغير راية السفينة السوداء إلى بيضاء إعلانه أنه قد نجت، وجاءت السفينة برايتها السوداء ولا يحتمل الملك أن يحرم من ابنه الذي ظل ينتظره فألقى بنفسه في البحر ، وترجع السفينة مهللة وينزل الابن يطلب أباه ليفرحه بنجاته وانتصاره وقتله الوحش لكن الأب قد ذهب حرم نفسه من الفرحة ، وكذلك حرم ابنه منها ، ذلك لأنه لم ينتظر وكان متعجلا وهل يضيع الموت ؟؟
لا تتعجل ، رجل غاب عن بيته منذ عشر سنين ترك بيته وابنه في العاشرة ، وفي طريق عودته خرج عليه اللصوص ، فأخذوا ما معه ولم يتركوا معه سوى قطعة ذهبية واحدة ، لكن وقع منهم مسدس التقط المسدس ومضى حزيناً على عمره الذي ضاع بلا شيء فقابل حكيماً لا يقول الحكمة إلا إذا دفعت له قطعة ذهبية كانت هي كل ما يملك دفعها إليه . قال الحكيم له : قبل أن تقدم على فعل أي شيء عد في عقلك حتى خمسة وعشرين . وتابع الرجل سيره إلى بيته وفي المساء وصل إلى بيته نظر من الشباك فرأى طاولة وسط الغرفة وقد غطتها المأكولات وجلس إليها اثنان الزوجة ورجل لم يعرفه ، ارتعد من المفاجأة .
- الخائنة ! لقد أقسمت لي بأنها لا تتزوج غيري ! وعدتني بأن تنتظرني والآن تخونيني مع غريب في بيتي !
أمسك على قبضة المسدس وصوبه داخل البيت ، لكنه تذكر نصيحة العجوز أن يعد حتى خمسة وعشرين ، بدأ العد واحد.. اثنان .. ثلاثة .. أربعة ، قبل أن ينتهي من العد كان قد سمع الشاب يخاطب المرأة بكلمة أمي .
- رباه إنه ابني ، كأني لو لم أعد حتى خمسة وعشرين لعملت مصيبة أندم عليها أبد الدهر.
لماذا لا نأخذ تلك النصيحة التي دفع فيها صاحبنا قطعته الذهبية الوحيدة دون أن ندفع شيئاً ؟ لماذا لا نعد حتى خمسة وعشرين قبل أن نتخذ قراراتنا ؟ بل فلنجعلها حتى مائة.
عندما قامت حرب البسوس كان أكثر المعذبين همام وأسرته ، فهمام أخو جساس القاتل، وامرأته ضباع أخت كليب القتيل ، وولداه القاتل عمهما ، والقتيل خالهما ، أحدهما ظل مع قبيلته المطلوب منها الثأر ، وأما الآخر واسمه شيبان فانضم إلى خاله الزير لينتقم للقتيل الكريم ، لكنه استبطأ ثورة خاله للانتقام لأخيه ، فثار فيه ، وقال له :
- انتظرناك كثيراً لتثأر لأخيك دون جدوى ، لأنك لا تعرف إلا أن تتمخطر أمام النساء حتى ملابس الحرب التي لبستها كانت لذلك .
ثم رمي له برمحه ، وقال له ..
- لم يعد للسلاح قيمة ما دام قائدنا هو الزير الذي لا يجيد إلا البكاء والتخاطر أمام الناس.
وجن جنون الزير سالم ، وصرخ فيه لما رآه يوليه ظهره ، لكن الفتى الثائر لم يحفل بوعيد خاله ورمى له برمحه قائلاً :
وتركه مولياً له ظهره فناداه خاله :لا تمض من وجهي هكذا .
لكن شيبان لم يحفل به بعد أن ألقى له رمحه كان الرمح في يد الخال الغاضب ، أطلقه ليخترق ظهر ابن أخته ، أحب الناس إليه الذي ترك قبيلته من أجل أن ينتقم لخاله ، الذي انضم لهم ضد أخيه وأبيه ، فإذا به أول من يدفع الثمن من عائلة القاتل ، ويبكي الخال وهولا يصدق أنه قتل أكثر واحد يحبه في هذا الكون ، بل آخر واحد يتمنى أن يدفع ثمن هذا الثأر .. ليت المهلهل كان يعرف تلك الحكمة الذهبية ، عد حتى خمسة وعشرين قبل قرارك، ليته وجد حكيماً يأخذ منه ما يريد من قطع ذهبية ويعلمه تلك الحكمة ولا يقف هذا الموقف الصعب .. الصعب جداً.
لا تتعجل في الإدلاء برأيك في مقابلة متحدث يتحدث في موضوع جديد عليك، انتظر حتى تجمع علماً في هذا الموضوع ثم تكلم فلن تخسر شيئا إذا كنت على صواب وانتظرت ، لكنك ستخسر الكثير لو تعجلت لأنك ستعطي للباطل فرصة لينتصر عليك ويأخذ نقطة عليك ويلبس ثياباً جديدة أنك من ألبستها له وتثبت خيمته في أرضك بنفسك .
هذا لو كان المتحدث على خطأ ، وفطرتك ترفض رأيه فكما ترى خسرت بالتعجل ، ولو انتظرت وجهزت له لكسرت الباطل كسرة شديدة، أما لو كان المتحدث على صواب فقد ربحت بسكوتك.
. من وصايا أبي آدم .. لا تسبق يومك ، فمن يسبق يومه لا يلحق بغده . وانظر إلى هذا الذي وهب دجاجة تبيض له كل يوم بيضة من ذهب ، فإذا غلبه جشعه ، وذبح الدجاجة ليحصل على البيض الذهبي كله ، فلن يجد سوى حكمة تقول له : من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه .
والرزق عنوانه عدم التعجل ، نزل الرجل عن ناقته أمام المسجد ليصلي العصر، فرأى غلاماً على قارعة الطريق يبدو عليه العوز، فطلب منه أن يراعي الناقة حتى يخرج ، وهو في الصلاة انتابه خشوع ، فانتوى أن يخرج فيعطي الغلام ناقته ، فلما خرج وجد الغلام قد سرقها ومضى بها . فقال الرجل: سبحان الله !! أردت أن أعطيها له حلالاً فأبى المسكين إلا أن يأخذها حراماً!، وكل رزق غير حلال ليس من رزق الله .. يقول الله عز وجل في سورة البقرة : ومما رزقناهم ينفقون (3)) البقرة .


















