سر الصفحات الممزقة من مذكرات سعد زغلول
د.ماهر جبر المصريين بالخارج
(قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم هل غيض النيل؟ أم هل زُلزل الهرم؟ قالوا أشد وأدهى، قلت ويحكموا، إذاً مات سعد وانطوى العلم)، الشاعر بشارة الخوري في رثاء سعد زغلول.
نحن الآن في شهر ذي الحجة 1247ه الموافق يوليو 1858م، المكان قرية ابيانة القابعة في أقصى شمال الدلتا، حيث يصافح النيل أمواج البحر، متدفقاً بماؤه الرقراق منساباً بين ضفتيه، تتلقفه السواقي عازفةً لحناً ممزوج بتغريد الطيور، ومداعبة النسيم العليل لأغصان الشجر هامساً بسيمفونية رائعة لا يستطيع عزفها أعظم الملحنين، والنخل على شاطئيه باسقات لها طلع نضيد، والدواب تسرح وتجيء ترعى العشب حيث الخير والنماء والجمال، جمال الريف الذي يجعلنا نرى الله أكثر مما نراه في المدن، الكل يسبح خالقه ليلاً ونهاراً، صورة رائعة جل من أبدع وصور، فتبارك الله أحسن الخالقين.
في هذه القرية التابعة لمركز فوه محافظة الغربية، والتي أصبحت فيما بعد تابعة لمركز مطوبس محافظة كفر الشيخ، نقص عليكم مشهد ميلاد الزعيم خالد الذكر سعد زغلول كما وصفه كاتبنا الكبير مصطفى أمين في الجزء الثاني من كتابه أسرار ثورة 19حيث يقول:. صرخت القابلة وهي تحمل المولود بين يديها ولد .. ولد، ووقفت سيدات الأسرة حول فراش مريم يتطلعن الى ولدها الأول، وزغردت الخادمات، وأقبل الأب ابراهيم زغلول على صوت الصياح ليرى مولوده الثامن، لقد رُزق من قبل بسبعة أولاد وبنات، ستة منهم من زوجة أخرى، فهو أول ولد لمريم زوجته الثانية، وأسماه سعد، جلست سيدات الأسرة حول المولود الجديد، وقالت واحدة: سيكون قائداً، وقالت الثانية: سيكون معلماً، وقالت الثالثة: سيكون وزيراً، وقالت الرابعة: سيكون حاكماً، وقالت مريم: بل سيكون كل هؤلاء في وقت واحد، وضحكت السيدات الجالسات لنبوءة الأم، ولكن القدر لم يضحك، لقد كان زغلول كل هؤلاء، فهو القائد والمعلم والوزير والحاكم.
الى هنا إنتهى كلام مصطفى أمين وهو الذي تربى في بيت الأمة، فسعد زغلول خال والدته ومتبنيها بعد وفاة والدتها، فإذا أردنا الكلام سريعاً عن بدايات سعد زغلول فنجد أن والدته كما قلنا هي مريم إبنة الشيخ عبده بركات أحد كبار الملاك في ذلك الوقت، وأخوها عبدالله بركات هو والد فتح الله بركات باشا عضو الوفد بعد ذلك، والوصي علي الملك أحمد فؤاد بعد نجاح حركة 23 يوليو 1952م، والأسرة جميعها تقطن قرية منية المرشد التابعة لمركز مطوبس، ولقد كان لهذه السيدة تأثيراً كبيراً في حياة سعد، مما جعله يقف بجانب قاسم أمين عند تأليفه كتابي (تحرير المرأة، والمرأة الجديدة)، وقد تخلى عنه الجميع، وأرجع سعد ذلك لحبه الشديد، واحترامه للمرأة في صورة أمه، حتى أن الخديو عباس حلمي قال له كيف تطالب بتحرير المرأة وهي ناقصة عقل ودين، فرد عليه سعد قائلاً:. أمي هي التي جعلتني أؤمن بتحرير المرأة، فهي كاملة العقل والدين، وهي في قريتنا أعقل من كل الرجال فيها.
لم يكن سعد زغلول سياسياً فقط بحكم إشتراكه مبكراً في ثورة عرابي، وكفاحه المستمر بعد ذلك، لكنه كان وطنياً خالصاً حتى النخاع، فلم يعرف العالم كله في تاريخه زعيم وحد بين فئات مختلفة الديانة كما فعل سعد، مما حدا بالزعيم الهندي المهاتما غاندي الى القول:. بأن سعد زغلول أستاذي، قلدناه في الحركة الوطنية، قلدناه في تأليف الحزب من طبقات، كلما إعتقل الإنجليز طبقة حلت مكانها طبقة أخرى، ولكننا فشلنا في أمرين، نجح فيهما سعد زغلول، أولهما توحيد الهندوس والمسلمين كما وحد سعد بين الأقباط والمسلمين، وثانيهما إضراب الموظفين، وعندما علم سعد بذلك قال، هذا وسام ممن يملك منح الوسام.
غير أن سعد زغلول غلب عليه الفلاح في داخله، فلم يتجه بخطابه فقط صوب الطبقة الراقية من المتعلمين والموظفين، إنما حول ثورته الى ثورة فلاحين وافتخر دائماً بأنه زعيم الرعاع وأصحاب الجلاليب الزرقاء، لذلك لم يكن للفلاحين دور واضح في أي ثورة كما في ثورة 19، فقاموا بحرق معسكرات الإنجليز، وخلع قضبان السكك الحديدية مستخدمين الفؤوس، فكان لكل القرى في ربوع مصر دوراً كبيراً في إرهاق المستعمر والقضاء على كل أحلامه وطموحاته، لذا أدرك سعد أنه يجب عليه الأهتمام بهؤلاء، فكان يفتخر بأنه زعيمهم، ويقول ان هذه الجلاليب الزرقاء أشرف من ملابس التشريفة التي يرتديها الوزراء، إنها علم الثورة الجديد، إنها بداية عصر يسود فيه الفلاح المصري، وينتهي فيه باشوات الأتراك.
يعترف سعد زغلول في مذكراته بأنه كان يحلم بالوزارة، ويبات ليله مسهداً، يجافيه النوم خوفاً من عدم تحقيق أمنيته، ثم ينتفض الفلاح في داخله فيرفض أن يكون ملكاً وليس وزيراً فقط، ذلك أن الإنجليز عرضوا عليه ذلك، فكان رده إذاً جورج الخامس يفاوض جورج الخامس، لكنه كان يحلم أن يكون حاكماً ملكاً أو رئيساً بإختيار شعبه، وهنا يجيء وقت حديثنا عن سر الصفحات الممزقة من مذكراته، فمذكرات سعد زغلول كانت مكتوبة في كراسات عادية، أحياناً كثيرة يترك سعد صفحات بيضاء في أولها وكذلك في آخرها، وأحياناً أخرى كان يكتب في الكراسة من الشمال الى اليمين، ولا عجب فتلك طبيعته، فأدى ذلك عند ترقيم الصفحات بعد موته الى إنتفاء العلاقة بين التسلسل الرقمي، والتسلسل الزمني، لأن الترقيم تم جميعه من اليمين الى اليسار، وعدد هذه الكراسات 53 كراسة، ومرقمة من 1 الى 3018 صفحة، لكن ماتم ملاحظته أن الصفحات من 1426 الى 1482 ممزقة ولا أثر لها، رغم أن ترقيم الكراسات من 1 الى 53 كاملاً غير ناقص، مما يوحي أن الأوراق المنزوعة قد فُقدت بعد ترقيم الصفحات وقبل ترقيم الكراسات، لكن السؤال المتبادر الى الذهن عمن نزع هذه الصفحات؟ ولماذا نزعها؟.
اقرأ أيضاً
- ياسمين فؤاد : الانتهاء من تنفيذ خطتي الإصحاح البيئي لشركتى بترول بخليج السويس
- وزيرة الهجرة تستقبل مدير مكتب اليونيسكو بالقاهرة لبحث التعاون في إطار المبادرة الرئاسية ”اتكلم عربي”
- مصطفى إبراهيم يحصد جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية
- بالصور البيان الختامي للجنة المتابعة والتشاور السياسي بين السعودية ومصر
- رئيس البرلمان العربي يشيد بدور الرقابة الإدارية لمكافحة الفساد
- السقا وكرارة وسامي في كواليس أول يوم تصوير نسل الأغراب
- أبو الغيط يستقبل وفداً من أعضاء ملتقى الاتحادات العربية النوعية المتخصصة
- العربية للتصنيع تستقبل سفير المجر لبحث التعاون المشترك
- الإفصاح الجمركي بالمملكة العربية السعودية
- سموحة يتعاقد مع أحمد عبد القادر لاعب الأهلي على سبيل الإعارة
- رئيس الوزراء الإثيوبي أعلم بمكان تواجد قادة تيغراي الفارين
- المصريين بالخارج تهنئ أحمد عبد النبي بالزواج السعيد
في الواقع هذه الصفحات المنزوعة هي التي تحوي ما حدث بين اللورد ملنر، وسعد زغلول من حديث بشأن الدستور، حيث طلب سعد أن يوضع فيه ما يوضح استقلال مصر، ونظام حكمها ملكياً كان أو جمهورياً، كما أكد أن من حق مصر أن تكون جمهورية، وأن تطلب عزل السلطان فؤاد إذا أرادت ذلك، مما حدا بالقصر إعتبار ذلك دعوة للتحول للنظام الجمهوري، كما أن هذا الجزء مذكور فيه كذلك عرض تولي العرش على سعد كما ذكرنا، وهنا تشير أصابع الإتهام الى شخص مجهول أراد إخفاء هذا السر الخطير، وغالباً ما يكون من قبل السلطان فؤاد، أو من أحد رجال القصر، فهو من قام بفتح خزانة بنك مصر الخاصة بسعد بعد وفاته ونزع منها هذا الجزء، لكن المفاجأة التي لم تكن في الحسبان أن سعد قام بكتابة مفاوضاته مع ملنر في كراسة أخرى مستقلة، ولولا ذلك لما عرفنا محتوى الصفحات الغائبة بالفعل التي تم تمزيقها، وكانت سبباً في خلاف أعضاء الوفد مما جعل لطفي السيد يقدم حلاً وسطاً لهذا الصراع مقترحاً تأليف هيئة شعبية من العلماء ورجال الدين وأعضاء الهيئات النيابية، وهؤلاء يجتمعون ويقررون تأييد إنتخاب السلطان فؤاد سلطاناً، وبذلك نكون أرضينا الجميع، فجعلنا اختيار الرئيس بالإنتخاب، وفي الوقت نفسه احتفظنا بالسلطان، لكن القصر لم ينساها لسعد فحدثت واقعة التمزيق.
رحم الله زعيم الأمة خالد الذكر سعد زغلول، وطيب ثراه، متمنياً أن تتم دراسة حياته دراسة مستفيضة توفيه حقه، وتعرف الأجيال الحالية به، لا أن يكون مجرد اسم يذكر لا أكثر، ويعرف عنه الآخرون ما لا نعرفه .