مذكرات مهاجر مجهول.. الجزء الثاني (5).. وسايط
أشرف علي يعقوب المصريين بالخارج
كان الوقت يمر مسرعا، أيام بعد أيام ، اسابيع بعد أسابيع و شهور بعد شهور. و ايضا سنين و بقي لي سنتان لانهاء التخصص في الامراض الباطنة بجامعة بادوفا. كان مرتبي ينتهي كله قبل آخر الشهر و حسابي في البنك يكاد أن يكون صفرًا.
و فجأة قالوا لي انني استطيع التقدم للعمل بتخصصي في أمراض القلب اذا استطعت أن اعادل التخصص. حاولت معادلة التخصص فرفض طلبي من وزارة الصحة الإيطالية.
و قال لي احد الموظفين في الوزارة "قرأت في ملخص عملك الذي قدمته انك عملت في المستشفى الايطالي في القاهرة في قسم القلب لمدة خمس سنوات، و هذا يسمح لك بالتقدم لأي عمل في مجال أمراض القلب او الأمراض الباطنة في إيطاليا". و قال "عليك أن تحضر شهادة من المستشفى الإيطالي بالقاهرة تثبت لنا عملك في قسم العناية المركزة و القلب فيها".
كانت فكرة مذهلة و تحل كل المشاكل، و سافرت للقاهرة و اخذت شهادة من المستشفى الإيطالي بذلك و وثقت من طاقم التعاون الايطالي في مصر ، و ذهبت لتوثيقها من القنصلية.
كان الذهاب للقنصلية الإيطالية في القاهرة من ارذل المهام و خاصة اذا كنت مصري. تسلحت بالباسبور الإيطالي و رنيت جرس باب القنصلية الذي يدخل منه الايطاليين ، ففتحت لي سيدة مصرية (حاصلة على الجنسية الايطالي لزواجها من ايطالي-مصري) عرفتني و كنت قد عالجتها في المستشفى الإيطالي و سألتني "ماذا تفعل هنا يا دكتور أشرف، و الله نذكرك بكل خير". شرحت لها هدفي فقالت أن الدخول من هذا الباب مقصور على المواطنين الايطاليين " فأخرجت لها جواز سفري الايطالي فإبتسمت و و رفعت ابهامها في اشارة ايجابية و ادخلتني.
كالمعتاد فقد يحدث أن تأخذ الجنسية لبلد جديد، على الورق، و لكن المعتاد انك تعامل غالبًا ، و خاصة في إيطاليا، و كأنك مواطن اجنبي.
دخلت على الموظفة الايطالية الجميلة في مكتبها الواسع الشديد الفخامة و كانت هي المسئولة عن اعتماد مثل هذه الشهادات. و قابلتني بوجه متجهم و عابس، قالت أن مثل هذه الشهادة لا يمكن اعتمادها. سألت "لماذا، انها موقعة بخاتم المستشفى الإيطالي و رئيس برنامج التعاون الإيطالي في مصر". قالت "انها ليست جهات رسمية مصرية، و انا اعتمد فقط الشهادات الحكومية المصرية " قلت لها و لكن برنامج التعاون الإيطالي جهة حكومية إيطالية رسمية". قالت "لا،لا أعرفهم، لا يمكن، اتفضل المقابلة انتهت".
و فجأة رأيت حق من حقوقي يضيع، و سنين من عمري تهدر، و ظلم أسود لم أكن اتوقعه.
و هنا تذكرت ما قالته لي زوجة صديقي و زميلي الدكتور جمال حلمي الاسترالية و التي عاشت سنين طويلة في روما قبل أن يعودا لمصر. كانت قد اعدت حفلة صغيرة لتوديعي قبل ان اسافر للبعثة الى إيطاليا اول مرة. و قالت "سأنصحك نصيحة مهمة للتعامل مع الإيطاليين، هم شعب يعيش على الوسايط و المحسبويات، اذا كان لك حق في حاجة و اجحفت فيه إظهر غضبك و عليّ صوتك و هدد بالتحدث الى شخصية مهمة او الى الصحافة ، بس اوعاك تشتم".
و قررت ان استخدم هذا التكنيك هنا، فإنتفضت من مقعدي، و فنجلت عيناي في نظرة غاضبة موجهة للموظفة الرقيقة ، و صرخت " انت لا تدرين انك تدمرين مستقبلي، كل هذه السنين في المستشفى الإيطالي تضيع هباءاً بسببك، و لا تكنين أي احترام للتعاون الدولي الإيطالي". "انا اريد مقابلة القنصل حالاً، سوف اشتكيك في كل مكان، لفان الفلاني و فلان الفلاني (شخصيات ايطالية و مصرية هامة لم اكن حقيقة اعرفهم بل اوهمتها بذلك)، ايامك هنا في القاهرة اصبحت معدودة".
فإصفر وجهها و امسكت بالتليفون و كلمت احدهم، يبدو انه كان رئيسها المباشر. حضر رجل الى الغرفة مسرعًا و ً قدم لي نفسه بأنه احد الموظفين الكبار في القنصلية ، و دعاني لمكتبه. جلسنا فأظهرت له غضبي من المعاملة السيئة التي اعطيت لي من الموظفة و احتقاري لمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين و انني شخصيا سوف اتكلم اليوم من الشخصيات التي ذكرتها سابقاً. قال لي بهدوء "لا داعي لهذا، اعطني الشهادات التي تريد توثيقها". أخذ الشهادات و خرج و عاد بعد حوالي عشرة دقائق و ارجع لي الشهادات موثقة و مختومة و معتمدة.
كنت اعرف انهم ليسوا الا موظفين في القنصلية ، وصلوا لهذا العمل بالواسطة ، و انهم لا يساوون المرتب العالي الذي يأخذوه، و أن حياتهم في مصر هي حياة لم يكونوا يحلمون بها، و انهم بيقولوا يا حيط دارينا، و اكيد قالوا "بدل الواد ده (اللي هو انا) ما يعملنا ازمة و فضيحة، نديله شهاداته اللعينة و نكفي خيرنا شرنا".
خرجت بشهاداتي الموقعة و شاكراً في ذهني "أورسولا " زوجة جمال ، و الذين كانوا قد رحلوا هم ايضا الى استراليا و اقاموا فيها.