د. أشرف يعقوب يكتب: مذكرات مهاجر مجهول
المصريين بالخارج
الجزء الثاني (8)
وصل البروفيسور أخيرًا ثم مر معنا على المرضى و هو ينظر لي بين الآن و الآخر و كأنه يقول: "لدي ما سوف اقوله لك".
صبرت صبرًا جميلًا و بعد انتهاء المرور أشار لي أن اتبعه لمكتبه. دخلنا المكتب و بعد الجلوس قال لي: "البروفيسور دالبالو صعب جدًا و لم يرد أن يسمح لك بهذا الاستثناء، و لكني تحايلت عليه لمدة ساعة تقريبًا و افهمته ظروفك ، و بعد جدل طويل، وصلنا الى حل". قلت له: "ما هو هذا الحل بروفيسور؟". قال:"انه سوف يعتبرك كطبيبة حامل و يعطي لك تسعة أشهر توقف عن مدرسة التخصص". قلت له:و ماذا سيحدث بعد ذلك بروفيسور ؟". قال:"سوف تعود الى الدراسة اذا لم تستمر في عملك في مستشفى مونتيبللونا، و هذا يعني بالطبع انك ستفقد سنة". فقلت :"و إن استمريت؟". قال:"لا أدري، سوف يقرر هو مصيرك حينئذ".
و رجعت للقسم و انا متحير فقراري هنا كان مصيريًا.
و في طريقي للدخول من بوابة القسم قابلني لويجي المدرس المساعد بالجامعة و ذراع البروفيسور الأيمن. رآني حزينا مهموماً فسألني عن ماذا قرر البروفيسور دالبالو. حكيت له ما أخبرني به البروفيسور بانيان. أخذ بذراعي و همس لي قائلاً:"أشرف، اسمع كلامي، اذهب و استلم وظيفتك يوم الاثنين و بطل قلق". قلت له:"لكن؟". قال لي:"ليس هناك من لكن، روح استلم شغلك يوم الاثنين في مستشفى مونتيبللونا ".
و تركني و انا محتار ، و لكني احسست ان لويجي صادق و نصيحته بنيت على خبرة و دراية بواقع الحال في منطقتنا الصحية. كلمت مانويلا في التليفون و اخبرتها بالتطورات الاخيرة و احسست انها تطير من الفرح ، و لكن آلمني قليلاً عدم اكتراثها بحالة الحيرة التي انا فيها.
و هكذا و في الساعة الثامنة و الربع من يوم الإثنين كنت امام مكتب الدكتور انطونيو بولييزي مدير اقسام الباطنة بمستشفى مونتيبللونا. ادخلتني سكرتيرته الى مكتبه فرحب بي بنظرة حانية و بلكنته الصقلية المحببة. كان رجلًا في اواخر الخمسينات من عمره، اصلع و الباقي من شعره ابيض ناصع البياض، كما كانت بشرته، اما عيناه فكانتا زرقاوان. و هذا ليس غريبًا على الصقليين فكثير منهم شقر و ذوي عيون زرقاء لكونهم من اصل نورماني. و النورمان هم أصلًا شعب من شعوب شبه جزيرة اسكندنافيا و هاجروا اولا الى نورماندي في شمال غرب فرنسا، ثم بعض منهم نجح في غزو جزيرة صقلية و استطاع طرد العرب منها.
شعرت بارتياح شديد لهذا الرجل و قضيت معه عشر سنوات من حياتي، تعلمت فيهم الكثير منه، ليس فقط في مجال الطب و لكن ايضا في كثير من مجالات الحياة.
بدأت العمل في مستشفى مونتيبللونا بحماس و ايقنت ان حجم العمل فيه أكثر بكثير من حجم العمل في مستشفى كاستل فرانكو. كان مستشفى قديم ، ضيق الممرات مظلمها، و صغير الغرف المزدحمة بالمرضى. كانت كل غرفة تسع ستة مرضى و الحمام في الطرقة. و كان الفرق شاسع بين عظمة و فخامة مستشفى كاستل فرانكو الجديد الذي وصفته سابقًا بممراته الواسعة و حوائطه الزجاجية و غرفه المنيرة و التي يوجد بها اربعة مرضى على الاكثر و بكل غرفة حمام. كانت مستشفى مونتيبللونا و كأنها من الدرجة الثانية بينما كانت مستشفى كاستل فرانكو من الدرجة الاولى. مستشفى كاستل فرانكو يعمل بها الاطباء المعينين بالواسطة ، بينما يعمل في مونتيبللونا الاطباء الغلابة الذين وصلوا بمجهودهم و كانوا هم الاطباء الاحسن و الاشطر. مستشفى مونتيبللونا يعمل بها سبعة اطباء اجانب زي حالاتي ، بينما لا يعمل في مستشفى كاستل فرانكو أي اجنبي.
و مع ذلك كان حجم العمل في مونتيبللونا اكبر بكثير، فكنت من المعتاد إن أبدأ في الثامنة و النصف و انتهي في الثامنة مساءً. حالات اخطر و عدد مرضى اكبر و امكانيات اقل.
اصبح ذهابي لبادوفا من الصعب جدًا. كنت دائما اذهب في يوم راحتي من عملي في نهاية الاسبوع لإكمال ابحاثي على الارانب و لمقابلة مانويلا و لكن ذلك اصبح مرة في الأسبوع و احيانا مرتين فقط في الشهر.
فهم البروفيسور بانيان و فريق عمله عدم استطاعتي الذهاب كل يوم و قبلوا مواعيد ذهابي الجديدة و لكن مانويلا لم تقبل هذا. لم يعد هناك وقت ان ابقى في منزلها بالساعات كما كنا نفعل عادةً، و أحيانًا كنا نتقابل على الغداء في مطعم بالقرب من كلية العلوم.
و مرت الستة الشهور بسرعة، و اخبرني الدكتور انطونيو بولييزي انه "معجب بحماسي و اخلاصي في العمل و يقدر مهارتي و خبرتي في العمل" و انه قرر ان يثبتني في العمل و اوصى ادارة المستشفى ان تعقد معي عقد عمل دائم ، و هذا ما تم فعلا بعد ايام قليلة.
و هكذا حصلت أخيرا و بعد ست سنوات على عمل ثابت كطبيب في تخصصي في ايطاليا. كانت فرحتي كبيرة جدا، و لكني لم ارى هذه الفرحة على وجه زوجتي و لم ادر وقتها سبب ذلك. و كذلك لم ار هذه الفرحة على وجه مانويلا، رغم انني رتبت ان اقضي معها يوما كاملا في بيتها. في ذلك اليوم و قبل ان اتركها لأعود لمنزلي سألتني:"هل ما زالت معاشرتك لزوجتك كاملة ؟". قلت لها ؛"نعم". نظرت لي بغضب و قالت:"انا لم اعد استطيع ان اقبل ان أكون الزوجة الثانية ، لقد مر على علاقتنا الآثمة عام و نصف عام و ليس لها معنى ان تستمر, هل انت على استعداد ان تترك زوجتك و تأتي للعيش معي ، هنا في هذه الشقة؟ ، نحن لا ينقصنا شئ". قلت لها:"لا لن اترك زوجتي، الآن على الاقل، لأن بنتي صغيرة و لا اريد أن اصدمها بانفصال والديها". قالت لي و هي ترتجف :" اذن سوف ننفصل انا و انت ، و بصراحة هناك من يريد أن يتقدم لي، و هو مناسب لي جدًا ". قلت:" لها كما تريدين ". و قبلتها على جبهتها و صاحبتني الى باب شقتها و ودعتني بكلمة "تشاو" باردة جدًا.
و لم ارها بعد هذه الليلة الا بعد عشرة سنوات في احدى المؤتمرات الطبية و حكت لي انها تزوجت ذلك الشخص و انهما لم ينجبا.
و ركزت معظم جهدي في عملي بمستشفى مونتيبللونا و اصبح ذهابي لبادوفا لعمل الابحاث اقل فأقل و بدأ البروفيسور بانيان و فريقه، و خاصة أدريانا التي ذهبت معي لبوسطن، في القلق، و الإلحاح عليَّ في الذهاب اكثر ، و بدأت علاقتي معهم في التوتر حتى حدث ما ادى لقطع علاقتي معهم لبضع سنين و هذا ما سأحكي لكم عنه في المرة القادمة.