مذكرات مهاجر مجهول الجزء الثاني ”10”
المصريين بالخارجاشرف علي يعقوب
عدت الى عملي في مستشفى مونتيبللونا ، و استغرقت في العمل السريري ، و لكن كان من الصعب عليّ ان اترك مجال البحث العلمي. كنت احب ان استمر في أبحاثي و لكن ما كان في اليد حيلة. لم يكن هناك وقت لاستمرار في ابحاثي في بادوفا حتى و إن أردت. و لكني لم ارد أن أعود للعمل مع فريق البروفيسور بانيان بسبب غضبي منهم.
و العمل مع فريق معهد البوليتكنيك الفيدرالي السويسري في لوزان كان من المستحيل.
و لكن....
لم أكن أستطيع ان اتوقف فجأة عن البحث العلمي. كان في دمي و عشت سنين و انا احلم به و اضع فيه كل طاقتي. و فكرت أن أقوم بأبحاثي في المستشفى الذي أعمل به، مستشفى مونتيبللونا. المستشفى لم يكن جامعيا، و لم تكن به فرصة لأي تمويل لإجراء بحوث علمية. فكرت أن اتقدم ببروتوكولات ابحاثي الى احدى الشركات التي تعمل في المجال الطبي، شركات الأدوية ، شركات الأدوات و الأجهزة الطبية، أو الشركات المنتجة للوازم المعامل للحصول على تمويل.
كان الشركة التي تعرفني جيداً هي شركة بوسطن التي تقوم بصناعة القساطر، و لكنهم يعرفون انني اعمل مع جامعة بادوفا و لم يكن من الحكمة أن اتصل بهم و اقول لهم انني تشاجرت مع جامعة بادوفا و اريد أن اعمل ابحاثي بمفردي. و حتى إن قبلوا سوف يسألونني أن أذهب الى بوسطن بالتأكيد ، و هذا ما لم أكن استطيع فعله نظرًا لظروفي الوظيفية و العائلية. نفس الشيء كان سيحدث اذا اتصلت بالدكتورة طيبة حسن في بوسطن.
المهم بعد البحث في انترنت، الجديدة جدًا وقت ذاك، وجدت ضالتي في شركة يابانية اسمها "جيمرو". كانت و مازالت تنتج اجهزة و كيت للمعامل الطبية. كان في ذهني عمل بحث على حبيبات من أحد انواع الكولستيرول اسمها " بواقي (بمعنى بقايا) الكولستيرول ". و كان هذا النوع من جزئيات الكولستيرول يعتبر من أخطر الأنواع على صحة الانسان لكونه المكون الاساسي للترسبات التي تسد الشرايين المتصلبة. كنت كتبت هذا البحث لعمله على المرضى بالفشل الكلوي ، و معروف انهم من اشد الناس عرضة لتصلب الشرايين. و كنت أتهم هذه البواقي بأن وجودها بكميات كبيرة في دماء مرضى الفشل الكلوي هو السبب الاكبر في النسبة العالية لديهم لحدوث تصلب الشرايين و انسداداتها. و لكن كان عليّ اثبات ذلك و كان هذا عملا جديدًا في ذلك الوقت. و لم تكن هناك اجهزة و لا كيت لقياس كمية بواقي الكولستيرول هذه في بلازما الانسان. كانت كل جزيئات الكولستيرول تقاس كلها بطريقة روتينية في المعامل الطبية العادية، و لكن بواقي الكولستيرول لم يكن هنالك أي طريقة لقياسها.
و لكني اكتشفت ان شركة "جيمرو" اليابانية تصنع جهاز معملي حديث جدًا و تنتج ايضا كيت كيميائي لقياس بواقي الكولستيرول ، و كان هي الوحيدة في العالم التي نجحت في هذا.
ارسلت لهم فاكس، و ايضاً إيميل ، و كانت الإنترنت في بدايتها، ملمحاً لهم برغبتي في عمل بحث على بواقي الكولستيرول. ردوا عليّ بسرعة مخيفة.
كان المتصل بي واحد من أهم الباحثين في هذه الشركة و اسمه "ناكانو". ارسلت بروتوكول بحثي الى ناكانو و بعد يومين رد عليّ بأنهم مهتمين بهذا البحث و الذي يعتبر الوحيد من نوعه في العالم كله. و انهم مستعدون لتقديم المساعدة و تمويل البحث. و قال لي ناكانو انه سوف يذهب الى المؤتمر العالمي لتصلب الشرايين في باريس و الذي كان من المقرر انعقاده في اكتوبر ١٩٩٧. قلت له سوف أحضر هذا المؤتمر و سأقابله هناك. سعد بذلك جدًا و قال لي أن هذا سوف يسمح لنا بمناقشة بروتوكول البحث بهدوء و تعمق معاً. و كان فريق بادوفا قد قدم لهذا المؤتمر عدد من الابحاث التي شاركتهم فيها و كنت قد نويت الحضور على حسابي فلم يكن هناك من يمولني بعد أن تركتهم.
و في هذه الاثناء كنت على اتصال بريدي مع كلودين و التي كانت قد قررت أن تأتي الى فينيسيا لمقابلتي. و في نفس الوقت كان من المقرر أن أذهب للمؤتمر العالمي للعلاج الديناميكي بالضوء في سبتمبر ١٩٩٧ و الذي اقيم في ستريزا في شمال ايطاليا على شاطئ البحيرة الكبرى. كانت جامعة بادوفا قد دفعت لي هذا المؤتمر من قبل و كذلك الفندق و رحلة السفر بالقطار من تريفيزو الى ستريزا. فكرت أن تأتي كلودين لتقابلني في ستريزا و هي قريبة من الحدود الفرنسية بدلا من تأتي الى فينيسيا. قلت لها هذا في مكالمة هاتفية فوافقت.
و ستريزا هي مدينة صغيرة تمثل منتجع سياحي لصفوة المجتمع في أوروبا. مدينة رائعة الجمال و فائقة الإبداع المعماري بقصورها العتيقة و فنادقها الفخمة. هي تقع على أجمل بحيرة إيطالية، اسمها الكبرى و لكنها ليست كبرى بحيرات الإيطالية ، بل أكبر البحيرات في إيطاليا هي بحيرة الجاردا القريبة من منزلي في مونتيبللونا. و ستريزا لها كورنيش ساحر على البحيرة ، و امامها ثلاث من الجزر الصغيرة داخل البحيرة هم الجزيرة الجميلة و الجزيرة الام و جزيرة الصيادين و بهم قصور بديعة ذوي حدائق مبهرة تنعم فيها بالحياة الطواويس البيضاء و مختلف الطيور الاخرى. و انا انصح كل من تأتيه الفرصة أن يذهب لزيارة هذه المدينة البراقة.
المهم وصلت ستريزا و دخلت قاعة المؤتمر و انضممت الى فريق باحثي بادوفا و منهم أدريانا فحيوني تحية باردة و تبادلنا بعض الكلمات المقتضبة. و في المساء وصلت كلودين فصاحبتها لفندقها ثم ذهبنا للعشاء.
و في الصباح عدت للمؤتمر بينما ذهبت كلودين لعمل جولة
في المدينة ، و في العصر قابلت الدكتورة طيبة حسن و التي عرضت علي الذهاب الى بوسطن بعقد عمل في معملها لمدة عامين ، فرفضت بأدب فلم أكن أستطيع ترك عملي الحكومي، المضمون في ذلك الوقت ، و الذهاب لمغامرة غير محسوبة في أمريكا. و عندما أتذكر هذه الفرصة الآن اشعر بالندم على رفضي. عزمتني الدكتورة طيبة على العشاء، و كذلك ادريانا التي شعرت انها تريد مصالحتي و لكني اعتذرت بلباقة قائلًا انني سوف اتعشى مع احد الأصدقاء. و بالطبع تعشيت مع كلودين التي تركتها لوحدها طول النهار.
المهم انتهى هذا المؤتمر و رجعت كلودين لفرنسا و كنا قد تواعدنا على اللقاء في باريس في اكتوبر حيث كان عليّ حضور مؤتمر تصلب الشرايين العالمي الحادي عشر و مقابلة ناكانو الياباني.
أخبرتهم في المستشفى و أخذت اذن رئيس القسم أن أذهب لهذا المؤتمر، و لسبب ما ذاع هذا الخبر في مستشفاي الجديد، و كما يقولون "الكحكة في يد اليتيم عجبة". حسدني بعض الزملاء ظنًا منهم انني ذهبت مدفوعاً من احدى شركات الادوية. بل و جائني غاضباً احد اخصائي القلب و قال لي كيف أجرؤ على طلب الذهاب لمؤتمر كان هو يريد الذهاب اليه و لم يجد من يموله، معتقداً انهم ارسلوني انا بدلاً منه و انني سرقت منه مكان حضوره في هذا المؤتمر المهم. قلت له بإزدراء و انا افتح الباب لدعوته للخروج :"انا أذهب لهذا المؤتمر على حسابي". ففحم و خرج من مكتبي و قفاه يقمر عيش.
قررت أن أذهب لباريس في قطار الليل، و كانت هذه هي المرة الاولى التي أذهب فيها لمدينة النور. و قطار الليل من فينيسيا الي باريس يأخذ حوالي ١٢ ساعة، و لكني حجزت كابينة نوم ، و ركبت القطار من محطة مستره في السابعة و النصف مساءًا بعد أن اشتريت عشاءً معتبراً من ماكدونالدز. و نمت و انا مستمتع بهزهزة القطار على سرير الكابينة المريح، و استيقظت بعد مرورنا على مدينة ديجون. و جلست افطر الكرواسان و الشاي الذين احضرهما نادل القطار و انا أستمتع برؤية المروج و المزارع الخضراء في الريف الفرنسي الجميل.
و وصلت محطة القطارات المعروفة بإسم "جار دو ليون " العتيقة، و هي واحدة من ست محطات قطارات ضخمة في باريس و هي المحطة التي تستقبل القطارات القادمة من الجنوب. و وجدت كلودين تنتظرني على الرصيف و كان لقاءً جميلًا. ذهبنا للفندق و بعد دش سريع خرجنا لأكتشف باريس. و كان الموتمر يبدأ في اليوم التالي فقضينا اليوم كله في مشاهدة معالم باريس. برج ايفل، متحف اللوفر، ميدان الكونكورد و مسلتنا الشامخة تزينه، حدائق التويلري و منطقة بيجال و الطاحونة الحمراء و الفرس المجنون. و شاهدت كميات الورود الكبيرة التي كان الناس يضعونها فوق النفق الذي ماتت فيه الاميرة ديانا و خطيبها المصري عماد الفايد.
و في الصباح ذهبت لمقر المؤتمر و هناك قابلت ناكانو و كان انساناً مهذبا لطيفاً و تحدثنا طويلًا عن ابحاثي السابقة و بروتوكول بحثي الذي اريد أن اعمله معهم. فوافق عليه متحمساً، و قال انه سوف يحضر الى مستشفى مونتيبللونا حيث اعمل ليرى حجم و قدرة معاملنا، و ذلك في نهاية جولته الاوروبية ، و كان عليه أن يذهب في الصباح التالي الى أمستردام. قال أنه سوف يتصل بي ليخبرني بميعاد وصوله لمطار فينيسيا حيث كان عليّ ان انتظره.
و كان هذا اليوم هو الخامس من اكتوبر و هو عيد ميلادي الأربعين و الذي احتفلت به مع كلودين في الحي اللاتيني في قلب باريس.
واظبت على حضور بقية اعمال المؤتمر و رغم ذلك نجحت في زيارة قصر فرساي الموجود خارج باريس مع كلودين في آخر يوم.
ودعت كلودين على رصيف قطار الليل، مرة اخرى، و الذي حملني عائداُ الى مستره، و من محطة قطار مستره ذهبت مباشرة لعملي في مستشفى مونتيبللونا.
و بعد اربعة ايام كلمتي ناكانو و اخبرني بأنه سيصل الى مطار فينيسيا في المساء بعد يومين. قال أنه يمكن له أن يأخذ تاكسي الى مونتيبللونا ، و لكني اصريت على استقباله في المطار.
و استقبلته في المطار و اخذته لفندق في مونتيبللونا. و في الصباح التالي ذهبنا معا للمستشفى و قابلنا رئيس قسم المعامل و بعض الفنيين و شعرت بإرتياحه للمستشفى و المعامل. ذهبنا للغداء مع الزملاء و اخبرني ان الخطوة التالية هي حضوري الى مقر شركتهم في اليابان و التدريب على استعمال الجهاز الحديث جدًا و كيفية استخدام الكيت الكيميائي. قلت له: "و لكن هذا سيكون مكلف جدًا لي!". قال:" و من قال لك أنك ستدفع شيئًا ، ستكون ضيفنا من الالف الى الياء". قلت له:" إذا كان كذلك فسأذهب لرؤية شركتكم".
و فعلا بعد اسبوعين كنت في مطار فينيسيا مسافرا الى طوكيو.