أشرف علي يعقوب يكتب: مذكرات مهاجر مجهول.. الجزء الثاني (12)
المصريين بالخارج
سلطنة عمان الآن بلد متقدم و يعتبر من البلاد العربية المرتاحة و مستوي المعيشة فيه عالي و أحسن بكثير من بعض بلاد اوروبا.
و لكن في عام ١٩٧٤ كان الحال مختلفًا تماما في عُمان. كان بلداً شديد التخلف و كأنه مازال في العصور الوسطى. في عام ١٩٧٠ كان اطول طريق مسفلت فيه هو الطريق بين مطار مسقط و قصر السلطان سعيد بن تيمور و كان طوله تسعة كيلومترات. كان عدد السيارات في كل السلطنة لا يتجاوز العشرة سيارات. كانت الامية تكاد تصل الى ما يقرب من مئة في المئة. كان عدد المدراس في كل البلاد ٣ مدارس تحوي ٣٠٠ طالب فقط. اما الخدمات الصحية فكانت تكاد تكون منعدمة.
كانت مسقط العاصمة تغلق ابوابها في العاشرة مساءً و تطفئ فيها الانوار حتى تمكث الناس في بيوتها لا تخرج. و كان يسمح بحمل قنديل للإضاءة فقط لمن له ترخيص رسمي و بسبب مهم جدًا. و اذا وصل أحد الغرباء بعد اغلاق أبواب العاصمة كان عليه أن ينام خارج المدينة حتى تفتح ابوابها.
و لهذا قام السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله بثورة بيضاء على والده السلطان سعيد بي تيمور و تولى هو الحكم و قاد بلاده الى التقدم و الرخاء اللذان تنعم بهما الآن.
أهتم السلطان قابوس اولاً بالمدارس و محو الامية ، و كانت البلاد في أشد الحاجة لمدرسين و مدرسات. و كانت الدولة الوحيدة التي تستطيع مده بحاجته من هيئات التدريس هي مصر. و هكذا تمت إعارة المئات من المدرسين و المدرسات من وزارة التعليم المصرية لتغطية حاجة عمان التعليمية في كل محافظاتها، و خاصة في المرحلة الابتدائية.
ودعنا امي في مطار القاهرة و اعطت لنا نصائحها كلُّ على حدة ، و كانت قلقة عليّ خاصة بسبب انني كنت في سنة الثانوية العامة و هي سنة خاصة عند المصريين. و الى الآن تُعلن حالة الطوارئ في البيوت المصرية عندما يكون احد ابنائها في الثانوية العامة. فقد كان و مازال المجموع الذي تحصل عليه في امتحان الثانوية هو العامل الاهم في تحديد مستقبل حياتك المهنية. قالت لي "أشرف اعمل كل جهدك لتدخل كلية الطب كما تريد، و سندفع لك أي دروس خصوصية تريدها". طمأنتها و اخبرتها بأنني سأفعل كل ما في جهدي و لا احتاج لدروس خصوصية. الواقع هو انني كنت في فصل المتفوقين في مدرسة اسماعيل القباني الثانوية و كان مستوى التدريس عالي جدًا.
وصلت البعثة التعليمية و من ضمنها امي رحمها الله الى مسقط في اوائل اكتوبر ١٩٧٤. قضوا فيها ثلاثة ايام في دورة تعريفية بالوضع التعليمي في عمان ثم ابلغوا الاعضاء بالاماكن التي سيذهبون اليها في انحاء السلطنة. و عرفت امي ان مجموعتها سوف تذهب الى مدينة صغيرة اسمها "خصب" عاصمة محافظة "مُساندم". و اكتشفوا ان هذه المدينة توجد في شبه جزيرة مساندم التي توجد على الجانب الغربي من مضيق هرمز. و شبه جزيرة مساندم هي جزء من سلطنة عمان رغم عدم اتصالها اتصال مباشرة بالاراضي العمانية الرئيسية و يفصلها عنها جزء من دولة الامارات العربية المتحدة.
كان على امي و مجموعتها من المدرسين المصريين ركوب طائرة صغيرة من مسقط الى خصب، التي وصلوا اليها بعد رحلة مرعبة. خصب في ذلك الوقت لم تكن إلّا ميناء صغير للصيادين و ملجأ للسفن الصغيرة التي تعبر مضيق هرمز حينما تسوء احوال البحر. كانت مدينة صغيرة ليس فيها طرق ممهدة او مرافق من أي نوع. كانت الكهرباء تنتج من مولدات تعمل بالجاز.
وصلوا الى مقر سكن المدرسين بسيارة جيب مخلعة و هالهم رداءة الغرف. كانت كل غرفة تحوي سريرين و عرفوا ان المدرسين الرجال و المدرسات النساء سوف يتشاركون في الغرف في مسكن الرجال و مسكن السيدات. و ذلك رغم انه كان هناك ثلاثة ازواج متزوجين ، فكان الرجل ينام في مسكن الرجال و زوجته تنام في مسكن النساء. و الحمامات و المطابخ مشتركة في المسكنين.
و حصلت امي على غرفة وحدها انتظارًا لوصول زميلة لتقيم معها في نفس الغرفة. كان الجو حارًا و لكنه محتمل اما الرطوبة فكانت مرتفعة جدًا و تسبب احساسا بضيق في النفس لمن لم يتعود عليها.
و في الصباح التالي ذهبوا للمدرسة الوحيدة في البلدة، و كانت تنقسم لمدرسة بنات و اخرى للبنين. كان الاثاث بسيط و لكنه مريح و واضح إنه كان جديد. كان نظام العمل الذي وضعته الناظرة المصرية للمدرسة يقضي ب ٢٨ حصة لكل مدرس في الاسبوع ، و تبدأ الدراسة في الثامنة صباحًا و تنتهي في الواحدة بعد الظهر، ثم تبدأ دروس محو الأمية من الرابعة حتى السادسة مساءً .
بدأ الجميع العمل بحماس، و بعضهم تم إرساله بعد ايام الى بلدة "بُخا" في غرب شبه الجزيرة و كانت اصغر و اكثر عزلة من خصب. كانت المشكلة أن الصغار و الصغيرات كانوا يتكلمون العربية بلهجة لم يكن يفهمها المصريين ، و لكن سرعان ما أصبحت لغة التخاطب العربية الفصحى و سعد الجميع برؤية هؤلاء الاطفال يتكلمون بالعربية الفصحى، و كبار السن يقرأون و يكتبون بفرحةٍ عارمة في فصول محو الامية.
و لكن في المساء كان الظلام الدامس و الصمت الكئيب يخيمان على الكل، فلا راديو و لا تليفزيون و لا صريخ ابن يومين فيما حول المساكن التي كانت بعيدة عن البلدة.
كانت مجموعة البعثة المصرية تتكون من خمس مدرسات و خمس مدرسين. ثلاثة منهم ازواج. و لا اعرف ماذا كانت العلاقة بينهم بالضبط و لكن من خطابات امي الأخيرة استطيع ان استنتج أن العلاقات بين اعضاء البعثة لم تكن على ما يرام و يبدو انها كانت متوترة من أول يوم و لا ادري بالضبط لماذا. يبدو أن البعض اشتكى من أن غرفة فلان أحسن من غرفته، و أنه يستحق غرفة أحسن لأنه أقدم منه في الخدمة، و أن البعض اشتكى من صعوبة العمل في فصله بالنسبة لفصول الآخرين. و أن فلانة "جلياطة قوي" و أن علان "معندوش ذوق" و إن هذا "ما بيصليش"، و لم يحصل أي توافق بين من كانوا في نفس الغرفة لتباين العادات و اختلاف مواعيد النوم و الاستيقاظ و غيره، علما بأن الجميع كانوا قد تخطوا الأربعين و كان من الصعب عليهم تغيير نظام حياتهم حتى يوائم نظام حياة الآخر. و كان هذا الامر أشد وضوحا و أكثر ضررًا في غرف المدرسات.
مرت شهور الشتاء بسرعة و بدأ الحر القاتل مع دخول الربيع. و في مايو اصبحت حرارة الجو لا تطاق و مع ارتفاع درجة الرطوبة كان يبدو للجميع و كأنهم يعيشون في الجحيم. لم تكن هناك أجهزة تكييف ، بل مراوح لا تفعل شيئًا يذكر. و قد حكت امي أن بعضهم كان يدلق جردل من الماء على مرتبة السرير حتى يستطيعون النوم عليها. كانوا يرشون ارضية الغرف و الطرقات بالماء للترطيب و الذي كان يدوم وقتًا قصيرًا جدًا تتلوه زيادة في الإحساس بالحر نتيجة زيادة الرطوبة.
و في الشهرين الاخيرين قبل اجازة الصيف وصلت مدرسة جديدة اسمها "سنية" و اعطوا لها المكان الخالي مع امي في غرفتها. كانت امرأة ضخمة، طويلة و عريضة ، تصغر امي بعدد قليل من السنوات. بدت عصبية من اول يوم و دائمة الشكوى من كل شئ. و كانت قد تركت زوجها و اولادها في بلدهم و لكنها قالت انها ستحضرهم ليعشوا معها، و لكن خصب لم تكن البلدة التي كانت تحلم بالانتقال اليها.
كانت تعزل نفسها متعالية على الكل و كان تعاملها مع امي سئ من أول يوم، و كانت متحفزة دائما للخناق و لا تفوت أي فرصة للنقاش الصاخب و كانت سليطة اللسان و يبدو انها كانت تطمع أن تأخذ غرفة لوحدها و عندما وضعوها مع امي في غرفة واحدة اصابها غضب شديد . و انا اعتقد أنها حاولت أن تنكد على امي عيشتها حتى تطلب امي ترك الغرفة و هذا فعلا ما تم و لكن لم تكن هناك غرف خالية. تحملت امي هذا الحال و في ذهنها أن الشهرين سوف يمرا سريعًا و تذهب لمصر في اجازة الصيف الطويلة و عند العودة يكون قد حلها الحلّال.
و قبل أن ينتهي العام الدراسي بأسابيع قليلة ذهلت امي في يوم لمحت فيه سنية تخرج من غرفة كريمة و في يدها كيس سكر حملته الى غرفتهما و وضعته في الكومودينو الخاص بها.
و تكررت هذه السرقات..... كلها أشياء بسيطة مثل اكياس السكر و الشاي و ارغفة الخبز و الحلويات و هكذا.
و بدأت الغنائم تتكاثر في كومودينو سنية و دولابها و تحت سريرها...