بهجت العبيدي يكتب: في دور المثقف
المصريين بالخارج
تتنوع مهام المثقف بتنوع مناحي الحياة، وتأخذ وظيفة المثقف - إن جاز التعبير - أشكالا متعددة، تخدم جميعها الإنسان الفرد والجماعة البشرية والمجتمع والإنسانية، ذلك الترتيب الذي يبدأ من الفرد وينتهي بالجنس البشري، فالثقافة في معناها المعجمي هي التهذيب، والمقصود هنا حينما نقول ثقف البستاني الشجرة، أي أزال الزوائد منها وجعلها مهذبة أي جميلة التنسيق والشكل.
وتظل كل أدوار المثقف تدور في فلك الارتقاء بالإنسان، وتهذيبه، من خلال تخليصه أولا مما ليس هو إنساني، وتغرس فيه في المقابل تلك الصفات الإنسانية والقيم العليا، فيما يمكن أن يطلق عليه التخلي قبل التحلي، لتصل به إلى الصورة شبه المثلى للإنسانية، تلك الحالة التي رآها أحد فلاسفتنا المتصوفين، في درجة عالية من مدارج الارتقاء، وهي أن يتأنس الإنسان.
لم ترتق أمة، ولم يتقدم شعب، ولم تنهض دولة، إلا من خلال طليعتها المثقفة التي تعمل على تشكيل وجدان الأمة، التي تعمل بكل طاقتها للتأثير على الفرد من خلال للتواصل معه عبر جميع أنواع التواصل المتاحة، وذلك لإيصال رسالتها، ومحاربة كل آفة تطرأ على المجتمع، والتي يكون تأثيرها على الفرد هائلا، حيث إنه يخضع هنا إلى ضغط هائل من خلال مجتمع أصابه تلك الآفة وسار متأثرا بها، وذلك لن يتأتى إلا من خلال إعلاء القيم المثلى، وشرح بل تشريح صورة الحاضر ورسم خريطة المستقبل، ووضع آليات العمل لتحقيق هذه الخريطة، من خلال تلك الطليعة المثقفة.
الواقع العربي - المصري هنا مثالا - يعج المشهد فيه بكثير الأفكار، ومختلف التيارات، وعديد التحديات، ذلك الذي أصاب رؤية المثقف بضبابية هائلة، فتاهت - في تصورنا - العقول في جدل عقيم، ومن ثم اختلط سلم الأوليات، ساعد على ذلك تصدر متوسطو - أو بالأحرى عديمو - الثقافة سماء المشهد الثقافي الملبدة بالغيوم.
ليس الأمر هكذا فحسب، بل يقوم بعض المثقفين بدور سلبي في منتهى الخطورة، وهناك أمثلة صارخة تذهب بكل ما أوتيت من قوة في تغييب الوعي العام المصري وضرب العقل الجمعي للشعب المصري في مقتل، ومنهم من يأخذون مساحات هائلة في المشهد الراهن، نعلم إلى أي مدى أصبح المشهد مأساويا، وفي حاجة إلى مجهود هائل، من طليعة مثقفة، مؤمنة بدورها، مستعدة لتحمل ما يمكن أن يواجهها من خطوب، مستمرة في تخليص العقل والإنسان مما رسب فيه من الأفكار الخاطئة، بمحاولات متعددة.
نعلم أن هناك عناصر تجعل الكثير من المحاولات الجادة لتخليص العقل العربي - من خلال العقل المصري الأنموذج هنا - تذهب سدىّ وهو سيطرة الجماعات الراديكالية والرجعية، على الإنسان المصري والعربي، وذلك لما لها من تأثير على الإنسان المصري الذي هو بطبعه يجعل الدين في طليعة المؤثرات التي تشكله، وهنا أيضا لابد أن يكون للمثقف التنويري دور مستمر، فلا يتملكه الفزع، ولا يسيطر عليه الإحباط، ولا يملأه الياس.
ليس هناك بدٌّ من تحمل المثقف العربي الواعي لتبعات المسؤولية المنوطة به جبرا، فالواجب يفرض عليه العمل بكل قوة، مهما كانت المعوقات، ومهما تعاظمت الخطوب، لإزاحة هذا الغثاء الذي هو على سطح المجتمع مقدما نفسه أعلاه، ليحل المثقف الحقيقي محله، لتكون تلك هي الخطوة الأولى في طريق الإصلاح، وطريق أداء المثقف العربي لدوره.
كما ليس على المثقف العربي اختراع العجلة مرة أخرى، فعليه النظر فيما قام به المثقفون والمفكرون والفلاسفة في أمم أخرى حينما قاموا بواجبهم نحو مجتمعاتهم، ولاقوا في ذلك ما لاقوا، وهو ما يفترض أن يتوقعه مثقفونا، فعوام الناس أسيروا ما ألفوه، إضافة لأن النفس البسيطة تجنح للراحة والدعة، عكس روح المثقف والمبدع التي تقتحم الصعاب، وتسلك الطريق الوعرة وتتسلق الجبال الشاهقة بحثا عن جديد أفكار ومبتكر حلول، تعرضها في ثوبها اللائق على المجتمع الذي تسعى العقول المثقفة الواعية للارتقاء به، ونَظْمِه في عقد المجتمعات الواعية المتقدمة.