مذكرات مهاجر مجهول ...زالجزء الثاني (15)
اشرف على يعقوب المصريين بالخارج"كانت امي تجلس على احدى دكك القطار الخشبية. كانت تنظر خارج شباك القطار و لم تأخذ بالها انني الاحظها. لا أتذكر اذا ما كنت انا جالساً او واقفاً في القطار، و لكني أتذكر أن القطار كان يسير على مهل بينما كان يشق ظلام الليل. كان مصدر الضوء في داخل القطار هي اللمبات الواهنة ذات النور الاصفر في الممر بين الدكك. لم يكن هناك أي ركاب إلا امي. و من المحتمل انني كنت انا راكبا معها في هذا القطار الخالي، و لكني لا اجزم بذلك. و بدأ القطار في تهدئة سرعته تمهيدًا لتوقفه في محطته التالية، و رأيت امي تقف و تتجه الباب، و لاحظت انها لا تشعر بوجودي و لا تراني، بينما انا كنت على وشك أن أسألها الي اين هي ذاهبة، و لكني لم استطع، لم ترد الكلمات أن تخرج من فمي. اردت أن انزل وراءها و لكن لم تطاوعني قدماي.
وقف القطار و نزلت امي، و على الرصيف دارت لتواجه القطار، الذي بدأ في التحرك، و تتابع حركته و هو يبتعد عنها ، و انا مازلت في القطار، اراها واقفة تنظر ناحيته و عرباته واحدة بعد الاخرى تترك رصيف محطتها ببطء. و من شباك القطار رأيتها واقفة تحت ضوء المحطة الباهت تنظر ناحيتنا في سكون و صمت، حتى اختفت في الظلام".
و افقت من رؤياي هذه و انا اتصبب عرقًا و ادركت انه كان حلما شديد الوضوح ، و مازلت أتذكره بكل تفاصيله حتى الآن.
بعد المواجهة السابق ذكرها بين امي و سنية و التي كانت صباح يوم جمعة خرجت امي بعد الغداء للتمشية بعض الوقت للتخفيف عن نفسها قليلًا و للتفكير فيما ستفعل. ذهبت ناحية الميناء و تأملت البحر الساكن في الخليج و الجبال المحيطة بخصب و التي تتلون بلون احمر في اوقات العصر والذي يتحول الى القرمزي عند الغروب. تأملت القوارب العمانية الشهيرة بجمالها و حسن صناعتها و طرازها الفريد. و قد قابلت في ايطاليا فتاة إيطالية تخرجت من كلية اللغات الشرقية في فينيسيا و تخصصت في اللغة العربية و التي كتبت رسالة تخصصها عن هذه القوارب العمانية المتميزة و قضت من أجل كتابتها ثلاثة اشهر في عمان.
عادت للمسكن و قد قررت أن تتحدث مع المشرف المصري الذي سوف يحضر يوم الثلاثاء للتفتيش. حضر هذا المشرف يوم الثلاثاء كما كان مقرراً. و بعد التحيات و الاسئلة الروتينية في مثل هذه الحالات خرج مع امي من مكتبها، و كانت هي القائمة باعمال ناظرة المدرسة كما سبق قوله، و ذلك للتفتيش على الفصول. ترك المفتش حقيبته على طاولة امام مكتب امي. اغلقت امي الباب بعد خروجهما و لكن لم يكن هناك مفتاح. لم تكن قد اخبرته بعد بمشكلة سنية و كانت قد قررت أن تحدثه عنها في آخر جولته. و بعد الجولة، التي ابدى فيها المفتش رضاه عن كل شئ، عادا للمكتب و لكن امي لم تكلمه عن مشكلة سنية. ذهب بعد ذلك المفتش الى سكن المدرسين و كان عليه أن يقوم بنفس الجولة في اليوم التالي في مدرسة البنين.
عاد الرجل في اليوم التالي و بدلاً من أن يذهب الى مدرسة البنين جاء الى مكتب امي و هو مكفهر الوجه. قال لها غاضبًا انه وجد مرتبه ناقصا عشرون ريالًا و قد كان قد وضع مرتبه في ظرف وضعه في حقيبته التي تركها في مكتب امي عندما كان في جولته بالمدرسة يوم امس. و سقط في يديي امي، لم يكن هناك امامها إلا أن تخبره بقصة سنية من البداية. قرر الرجل أن يجمع كل المدرسين و المدرسات في قاعة مدرسة البنات بعد اليوم الدراسي.
حضر كل المدرسين و المدرسات و جلست امي في الصدارة مع المفتش بصفتها القائمة بأعمال الناظرة. حكى الرجل كل القصة التي قيلت له و اخبر سنية بالاتهامات التي وجهت اليها. و بالطبع سنية هاجت و ماجت و انكرت كل شئ و بكت و انهارت و حلفت بالقرآن و اخذت مصحفاً من المكتبة و قلبته على نفسها و اولادها، ثم اتهمت امي انها هي التي اخذت العشرين ريال من حقيبة المفتش. فما كان من امي الا ان هبت على قدميها و قالت: "اخرسي يا حرامية ، روحوا شوفوا الحاجات اللي خبأتها حتى تحت سريرها". و هنا ايدت كل المدرسات كلام امي و اعربوا كلهن عن شكهم في سنية من وقت ما جاءت، و أن السرقات لم تكن تحدث قبل مجيئها.
و هرعت سنية الى غرفتها بينما حاول الرجال أن يخففوا من وطأة الموقف. و قال زوج واحدة منهن أن زوجتي بدأت تشتكي من اختفاء حاجياتها منذ أن وصلت سنية و انه اضطر أن يشتري هذه الحاجيات لها. قال بعضهم بإبلاغ الشرطة و لكن المفتش رفض أن يعرض البعثة لهذا الموقف و وعد بإنهاء إعارة سنية في أقرب وقت و نصح الجميع بغلق غرفهم بالمفاتيح أو الأقفال حتى تذهب. نصحهم ايضا بتجنب الحديث و النقاش مع سنية بقدر الإمكان ، و قال لامي :"ربنا معاكي انتي التي تنامين معها في نفس الغرفة، اصبري قليلاً و إن شاء الله نجد حلاً لهذه المشكلة قريباً. و قال آخر أن نقص مرتب المفتش قد يكون نتيجة خطأ من الصراف، و قال آخر انه لابد و أن سنية هذه مصابة بمرض حب السرقة و هو مرض نفسي معروف.
و بالطبع كان الجو في غرفة امي كئيباً للغاية. توقفت امي عن الكلام مع سنية و كذلك فعلت هذه، و لكن الغرفة كانت مفعمة بتوتر رهيب. و لهذا السبب عرضت عليها الاستاذة كريمة و زوجها الاستاذ أنيس أن تقضي يوم الجمعة و بعض الامسيات معهم في شقتهم التي حصلوا عليها مؤخراً.
هذا عرفناه من خطاب امي الذي وصل الينا اربعة ايام بعد وفاتها. و في هذا الخطاب حكت امي ما حدث في هذا الاجتماع من عراك و الذي تم عشرة ايام قبل موتها. امي كتبت هذا الخطاب و رمته في البريد في اليوم التالي لهذا الاجتماع و لبت نداء ربها تسعة ايام بعد ذلك. في هذا الخطاب ذكرت انها قالت للمفتش و للزملاء أنه اذا حدث لها شئ فيجب أن يوجهوا اصابع الاتهام الي سنية، و اعادت ذلك مرتين في هذا الخطاب. و واضح من الخطاب انها كانت متوترة و لكن على ما يبدو كانت صحتها على حالها المعتاد و لم تتأخر. و فيه قالت ايضاً انها تعد المدرسة للاحتفال بعيد الثورة العمانية الخامس في يوم ١٨ من نوفمبر ١٩٧٥.
امّا ما حكاه لنا واحد من زملاء امي في هذه البعثة المشئومة أن سنية حضرت للمدرسة في صباح احد الايام و كان قد مر اسبوع علي الاجتماع الشهير و اخبرت الزملاء أن حسنية تعبانة في الغرفة و ليست قادرة على الحضور للمدرسة و لا على حتى الوقوف على قدميها. طلبوا طبيب الوحدة الصحية الهندي الذي حضر و كشف عليها ثم قال لهم ان امي تعاني من زيادة الصفراء و انها تحتاج لنقلها فوراً الى مستشفى صحار و هو اقرب مستشفى في الارض العمانية ، و كان هذا النقل يحتاج لطائرة لبعد المسافة و عدم وجود طريق بري.
و في اليوم التالي حضرت الطائرة التي جاءت خصيصًا بطاقم طبي هندي، و اخذوا امي على حمالة بين بكاء الزميلات و دعاء الزملاء. و قد قال لنا المدرس الطيب الذي حضر لمقابلة ابي بعد عودته لمصر أن سنية كانت تبكي و تولول من الحزن على امي. و قال ايضا أن امي لم تكف عن الدعاء لزوجها و اولادها طول الوقت.
طاروا بامي الي مستشفى صحار و هناك ظلت ايام قليلة دخلت فيهم في غيبوبة كبدية و توفاها الله الجمعة ١٤ من نوفمبر ١٩٧٥. و كتب في شهادة وفاتها ان ماتت بسبب فشل كبدي حاد. و لم تذكر فيها أي اصابات أو كدمات.
و في مصر كنت عائداً من التدريب العسكري و بينما افتح باب شقتنا نادت علينا جارتنا الله يرحمها و قالت: "أشرف، اذهب لبيت جدك فهناك امر مهم يريدك فيه".
ذهبت لبيت جدي القريب و بينما كنت اصعد السبعة ادوار وجدت جدي نازلًا و هو يبكي فقلت له:" هل ماتت جدتي؟". رد علي و هو يبكي؛"لا يا أشرف، انها امك، لقد وصل تليغراف يخبرنا بذلك صباح اليوم ". فذهلت طبعاً و صعدت باقي السلم لا أكاد اعي ما قاله جدي لي و اثناء صعودي كان جيران جدي يقدمون لي التعازي في وفاة امي و ليست جدتي كنا كنا نتوقع.
ما حدث كان غريباً جداً و لم نجد تفسيراً منطقيًا له حتى الآن. كانت جدتي متقدمة جداً في السن. لم يكن أحد يعرف سنها الحقيقي لأن في ايام ولادتها لم تكن هناك شهادات ميلاد بعد و لا حتى قيد للمواليد. و الذي ذكرته هي هو انها ولدت في اثناء "هوجة عرابي"، أي تقريبا سنة ١٨٨٢.
بعد دخول عائلة خالي لشقة جدي و جدتي ، تعرضت جدتي لغيبوبة لم تكن تفيق منها الا لتذكر اسماء ابوها و امها و اخوها الذين كانوا كلهم قد فارقوا الحياة من سنين. و تعجب الجميع عندما بدأت تردد في اليومين السابقين على وصول خبر وفاة امي اسم "حسنية ". احضرنا لها الدكتور حسن عطية دكتورنا العزيز رحمه الله و الذي قال انها في غيبوبة نتيجة جلطة او نزيف في المخ و لا امل في علاجها و اتركوها في سريرها لإن نقلها للمستشفى لن يفيد شيئاً.
كنا ننتظر موتها بين لحظة و اخرى و لكن الخبر الذي جاءنا كان هو خبر موت امي في غربتها بينما بقيت جدتي في غيبوبتها لا تكف أن تذكر اسم امي بين الحين و الآخر.