مذكرات مهاجر مجهول الجزء الثاني (16)
المصريين بالخارجتوفت جدتي نعمت رحمها الله صباح يوم ١٩٧٥/١١/٢٣، تقريبًا في نفس الوقت الذي كانوا فيه يضعون الصندوق الذي كان فيه جثمان امي في الطائرة العائدة للقاهرة.
ذهبنا لدفن جدتي في الثانية بعد الظهر تقريبًا ، ثم ذهبنا مباشرةً الى المطار لإحضار جثمان امي الشهيدة. وجدنا كل شئ جاهز في المطار و بكيت و انا أرى الصندوق الأبيض الذي كان يحوي جثمان امي و هو على طاولة امام مدخل مركز وصول البضائع. و ظللت انظر اليه و عيناي تفيض بالدموع حتى انهى المصاحبون لنا كل الإجراءات اللازمة. كان ابي في حالة انهيار تامة و لم يكن قادراً على عمل أي شئ غير البكاء المتواصل. و كان على واحد منا أن يفتح امامه الصندوق لنتأكد انها امي، طلب مني ذلك و لكني قلت لهم:"افضل أن تبقى في ذاكرتي صورة امي و هي حية، وليست و هي ميتة". هذا و انني لم أكن فعلًا قادرًا على تحمل هذا الموقف الرهيب. طلبت من سامي ابن خالتي و الذي كان يكبرني بستة عشر عاما أن يذهب هو، و فعلًا ذهب و عاد ليؤكد انها امنا العزيزة.
عدنا بامي الى المسجد القريب من شقتنا. صلينا عليها وسط جمع كبير من الناس المحبين لها كمدرسة في مدرسة العباسية للبنات و ابنة محمد صقر الذي كان من المترددين الدائمين على هذا الجامع و كان إنسانًا لطيفًا محبوبًا من كل الناس في حيّنا. ثم ذهبنا الى نفس مدفن جدتي الذي كنا فيه بعد الظهر و قد كانت الشمس على وشك الغروب. و تركنا امي في نفس القبر ، جنبًا الى جانب جثمان والدتها. و تذكرت كم كنت مضطربًا و مذعوراً عندما حكت لي امي عن هذه المناقشة الحادة التي حدثت بينها و بين امها قبل سفرها. و ها هما يوضعان في نفس القبر في نفس اليوم.
السؤال هنا هل كانت امي ضحية لسنية، هل قتلتها بالسم مثلا أن بطريقة اخرى لم تكتشف، هل تسببت في تدهور حالتها الصحية بهذه الصورة المفاجئة بسبب النكد و الخناق المستمر؟ و لكن الشخص، الذي تحدث مع والدي و الذي كان معهن في خصب و حضر الاجتماع الشهير و ساهم في نقل امي الى مستشفى صحار، قال لأبي انه لا يعتقد أن سنية قتلت امي، و قال أن اكثرهن بكاءً و ولولة على امي يوم أن عرفوا انها توفت كانت هي، سنية، حتى انها لطمت على خديها عدة مرات امام الجميع. و كان هذا هو السبب اننا لن نتقدم بأي بلاغ رسمي. كنا نعرف ان والدتي رحمها الله كانت مريضة بالكبد، و ان الطبيب حذرها من السفر ، و ان سبب الوفاة على شهادة الوفاة الرسمية كان "فشل كبدي حاد" و هذا كان يتواءم مع حالتها المرضية السابقة.
و لكن لا أحد يدري ماذا حدث بالضبط؟ و هذا يبقى في علم الله سبحانه و تعالى.
و الآن و بعد مرور ٤٥ سنة على هذه الواقعة لا نستطيع الا أن نترحم على جميع من كان موجودًا فيها، و كلهم توفوا، و عند ربهم العادل، و هو الذي سوف يحاسب الجميع.
و لكن ما يهمني قوله حاليا هو أن المصريين في الخارج لا يوجد بينهم تعاون مفيد او اتحاد فعلي، بل على العكس يوجد بينهم تنافس و تناحر و تجنب و انعزال في معظم الأحيان، و خاصة اذا تواجدوا معا في نفس مجال او مكان العمل. و لا ادري ما هو السبب في ذلك؟ ارى بالعكس أن غالبية الجاليات الأجنبية، في ايطاليا او بريطانيا مثلاً، لهم اتحادات عامة حقيقية و ليست شكلية و يتعاونون معا بجدية و مودة في حل المشاكل العامة و الخاصة. و رغم ذلك فأنا ارى ايضاً أن هناك الكثير من المبادرات و المحاولات التي تبشر بالنجاح التي تقوم بها وزارة الهجرة بقيادة الوزيرة النشطة السفيرة نبيلة مكرم عبد الشهيد.
و لا ادري كذلك هل يوجد الآن نوعا ما من التأمين على حياة المعارين الى الخارج من مدرسي وزارة التربية و التعليم ام لا؟ اما ايام امي رحمة الله عليها فلم يكن هناك شيء ، لا تأمين حصلنا على قيمته و لا تعويض من الحكومة العمانية و لا مكافأة نهاية خدمة مناسبة و لا شئ الا معاشها الذي داومنا على أخذه حتى بلغ اصغرنا سن ٢٦ سنة. في رأيي انه يجب على المعارين او العاملين في الخارج ان يكون لهم وثائق تأمين على الحياة و ضد الأمراض أو الإصابات المعطلة عن العمل مدفوعة من من يعملون لديهم.
و افقت من ذكرياتي المؤلمة على صوت المضيفة الألمانية و هي تطلب منّا ربط الاحزمة لأننا على وشك الهبوط في مطار ناريتا الدولي في طوكيو.