قتلة الكلمة الجميلة
بقلم : د.محمد بدير الجَلب
الكلمة ليست حروف فقط ، فهي مشاعر وأحاسيس...حروف إذا كُتِبَتْ ، ومشاعر إذا نُطِقت، وأيضًا هي سلاح ناعم قد يتحول إلى سلاح غاشم ، يهدم ويدمر مثل أي سلاح مدمر ، فكم من العلاقات بين الأصدقاء تدمرت بسبب كلمة غاشمة ، وكم من المشروعات انفضت بسبب كلمة غير مسؤولة ، وكم من العلاقات الزوجية انتهت بسبب كلمة غاضبة ، وكم من الحروب اشتعلت بسبب كلمة عدائية.
إنها الكلمة بوجها القاسي العنيف الذي يجيد استخدامه كثيرون من البشر ، فحولوا الحياة إلى ساحات حروب وقتال وصراع يُدْمي البشرية، وخلافات تدمر كل ماهو جميل في الحياة.
وأمام هذا العنف الجامح للكلمة القاسية اختفى بحياء الوجه الآخر الرقيق الناعم للكلمة ، الذي يدغدغ المشاعر ويحيي القلوب ويرطب الأفئدة، فلم تعد قصائد الشعر تتناثر كالورود ، فحلت محلها نشرات الأخبار المليئة بالدماء والدمار والخراب. وندرت الأغاني العاطفية التي تحيي الحب في الصدور وتنعش الأمل في الحياة ليحل محلها أغاني تحيي العرائز وتنعش الشهوات بصدور عارية وأجساد راقصة.
فقد توقفت المسلسلات الاجتماعية التي كانت تناقش الحياة ومشاكلها لتحل محلها مسلسلات عنف وأكشن تغرس القسوة وتزيد العنف والازدراء بين الناس ، اختفت برامج الكلمة الجميلة الهادفة التي كانت تُدَرس الأخلاق والفضيلة وحلت محلها برامج تافهة غير هادفة لمذيعات جميلات الصورة فارغات المحتوى ، وانتهت الكلمة الرقيقة في البيوت بين الأزواج وحل محلها عنف لفظي وتنمر يخنق الحياة الزوجية ، ويخنق أطفال لاذنب لهم ولاحول ولاقوة.
ضاع زمن الكلمة الجميلة فأصبحنا نتأسى دائمًا على فن الزمن الجميل ، وأخلاق الزمن الجميل، ومسلسلات الزمن الجميل وأغاني الزمن الجميل، وبيوت وعوائل الزمن الجميل. وكأن الدنيا توقفت عند ذلك الزمن الماضي الجميل ، وكأن حاضرنا توقفت عجلاته فلن ينتج مستقبل جميل.
ونسينا وسط حالة التأسف والتباكي أننا من نقول الكلمة وأننا من نصنع الحاضر والمستقبل ، نسينا في غفلتنا أننا من نطلق الكلمات فإما تكون رصاصة تقتل أو وردة جميلة ، نسينا أن نجعل كلماتنا جميلة طيبة لتتغلب على مآسي نعيشها وسط الحروب والكوارث التي تحيط بنا ، أو أزمات الحياة والضغوط الناجمة عن الغلاء والعمل ومشقة الحياة ، توقفنا نحن عن الكلمات الجميلة واستبدلناها بكلمات مثل طلقات الرصاص.... نحن ، نحن خربنا ودمرنا....نحن المتهمون الذين نضع أنفسنا موضع القضاء.
إننا توقفنا عن مراجعة أنفسنا وضبط مشاعرنا ولجم ألسنتنا ، وأصبحنا نرى أنفسنا بأننا في أجمل حال ، ونسينا أن ماحَولنا تدمره الكلمات التي ننطقها أو نطلقها ، مثل ذلك الزوج الذي لايجيد التعامل بالكلمة الطيبة مع زوجته فأحال بيته إلى جحيم ، أو ذلك المدير المتغطرس الذي لايحسن إلا إصدار الأوامر والتعليمات بلغة جافة عنيفة تُدمر روح العمل الجماعي والولاء الوظيفي عند الموظفين ، وذلك الصديق الذي لا يحسن إلا النفاق وقول الكلمات الجميلة ولا تجده يقف بجانب صديقه موقف رجولي ، وصاحب المال الذي لا يهتم إلا بما يعيد له الجنيه عشرة ، فلا يهمه جمال وقيمة إنتاجه الفني والإعلامي.


















