دور مصر في أثيوبيا عبر العصور
كان لمصر العديد من الأدوار المؤثرة فى العلاقات بينها وبين أثيوبيا بحكم رابطة نهر النيل والعلاقات التجارية القديمة ، وكذلك العلاقات السياسية. كما ارتبط البلدان بعلاقات دينية تعود إلى القرن الرابع الميلادى، كان لها طابعها الخاص الذى ترك أثره فى النفوس، وامتد ليبسط رداءه على الاتجاهات الثقافية السائدة أنذاك فى أثيوبيا.
أولًا : تأثير الكنيسة المصرية في أثيوبيا:
منذ أن نشأت كنيسة الحبشة (أثيوبيا) خلال القرن الرابع الميلادى، لم تتصل كنيسة الحبشة بالكنائس الغربية، ولم تحاول الاتصال بغير كنيسة الإسكندرية أو التعرف على غير مذهبها. ولم يكن ذلك من فراغ، فقد تبوأت كنيسة الإسكندرية مكانة مرموقه فى عالم المسيحية ، كما لعبت دورًا كبيرًا فى العلاقات بين مصر والحبشة، وهذا الدور له جذور عميقة، وخيوط تلك العلاقة لم تبدأ مع قيام دولة المماليك فى مصر(648هـ/1250م) ، وإنما بدأ دور الكنيسة المصرية فى الحبشة مع بداية انتشار المسيحية فيها ، ويدعم ذلك أن أحد قرارات مجمع نيقية(عُقد هذا المجمع بسبب الخلاف الذى ظهر بين المسيحيين حول مكانة السيد المسيح) عام325م قرر تبعية الكنائس فى أفريقيا للكرسى الأسقفى بالإسكندرية.
ومن هذا المنطلق صارت كنيسة الحبشة تابعة لكنيسة الإسكندرية بموجب القرارات التى اتخذت فى ذلك المجمع، فلا يجوز للأحباش الاستقلال بأمورهم الدينية ، ومع ازدياد تيار المسيحية فى الحبشة امتد خيط قوى من خيوط الروابط الدينية ليربط بين كنيسة القديس مرقص فى الإسكندرية وكنيسة الحبشة.
وازدادت أواصر الرابطة الدينية عندما رحل إلى الإسكندرية قادماً من أكسوم فرومنتيوس والتقى بالأسقف السكندرى أثناسيوس Athanasius (328م-373م) وعرض عليه حالة المملكة الحبشية ومدى احتياجها إلى كنيسة وراع ، ووجد فرومنتيوس ترحيبً صادقًا من جانب الأسقف السكندري الذي أدرك أن نشر المسيحية الصادقة فى تلك الجهات سوف يكون عظيم النفع والأثر فيما بعد. فقد وجد فى ذلك امتداداً لنفوذ كنيسته باتجاه الجنوب وعمقا استراتيجياً لإيمانه وشخصه إذا ما نزلت به نازلة من جانب السلطات الإمبراطورية.
وقد أجاب أثناسيوس طلب فرومنتيوس بعقد مجلس للأساقفة بالإسكندرية لمناقشة الأمر واستقر رأى الجميع على إرسال فرومنتيوس نفسه ليكون مطراناً لكنيسة الحبشة؛ لأنه أدرى الناس بطبيعة الأحباش وأقدر الناس على القيام بهذه المهمة، وصدر قرار تعيينه فى هذا المنصب ، وقد كان هذا التعيين تكريمًا لشخص فرومنتيوس الذى قام بعمل عظيم حيث نشر المسيحية فى تلك الجهات التى لم تصل إليه بعثات لنشر المسيحية من قبل ، وبفضل جهوده وجده تحولت أعداد كبيرة من الأحباش إلى المسيحية ، وأصبح فرومنتيوس هو مؤسس كنيسة الحبشة وأول مطارنتها، ولعل أهم عمل قام به فرومنتيوس عقب رسامته مطرانًا للحبشة هو ترجمة الإنجيل من اللغة اليونانية إلى لغة الجعز.
ومنذ تلك اللحظة التى وضع فيها أثناسيوس يده على فرومنتيوس راسمًا إياه مطرانًا لكنيسة الحبشة جرى التقليد على أن يرسًّم خليفته فى كنيسة الإسكندرية الراهب الذي يراه جديراً بالكرامة الأسقفية راعيًا أعلى للأحباش ، ولم تكن هذه الرسامة سوى العلامة الخارجية لتلك الصلات التى ربطت بين الكنيستين المصرية والحبشية ممثلة فى الإيمان الواحد، وقد كان هذا الإيمان متينًا قويًا إلى حد جعل الأحباش يجمعون على الوقوف إلى جانب النصارى فى مصر فى كل ما تعرضوا له من اضطهاد من جانب الأباطرة الرومان.
يتبع (مكانة وأهمية المطران المصري فى أثيوبيا)
د. محمد علي بهنساوي ـ دكتوراه الفلسفة في الدراسات الإفريقية.


















