ترامب ومكتب الإيمان: بين صعود الأصولية والصدام المحتمل بقلم بهجت العبيدي


في السابع من فبراير 2025، وقع الرئيس دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بإنشاء “مكتب الإيمان” في البيت الأبيض، مكلفًا بمهمة مكافحة التحيز ضد المسيحيين وتعزيز حقوقهم داخل الولايات المتحدة. لم يكن هذا القرار مجرد خطوة إدارية، بل جاء محمّلًا بدلالات سياسية وأيديولوجية تتجاوز حدود أمريكا، ليعيد إلى الواجهة النقاش حول العلاقة بين الدين والسياسة، وليثير تساؤلات عميقة حول مستقبل التوازن بين الحريات الدينية والحقوق المدنية.
أن يُطرح في الولايات المتحدة، بلد الحريات والدستور العريق، موضوع التمييز ضد المسيحيين، هو أمر يثير الدهشة للوهلة الأولى. فالبلاد التي تأسست على مبادئ الحرية الدينية طالما احتضنت المسيحية في قلب مؤسساتها السياسية والاجتماعية، ورؤساؤها، على اختلاف توجهاتهم، لم يترددوا في إعلان إيمانهم، بل واتخاذه ركيزةً في خطاباتهم وسياساتهم. كيف إذن أصبح المسيحيون – الذين يشكلون الأغلبية – بحاجة إلى مكتب رئاسي يحميهم من التحيز؟
الإجابة تكمن في التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدتها الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. فمع تصاعد الحركات الحقوقية وتعزيزها لقيم المساواة المطلقة، بات هناك شعور لدى قطاع من المسيحيين المحافظين بأن هويتهم الدينية مهددة، وأن القيم التي نشأت عليها أمريكا تتآكل لصالح تيارات فكرية جديدة. ومن هنا، أصبح الحديث عن “تمييز ضد المسيحيين” مرتبطًا بشعور قطاع من المؤمنين بأن أصواتهم لم تعد مسموعة في عالم يتغير بسرعة.
ترامب، الذي لطالما أتقن مخاطبة هذا التيار، لم يكن بعيدًا عن هذه المخاوف، بل استغلها في حملاته الانتخابية، مقدمًا نفسه كمدافع عن “أمريكا المسيحية” في مواجهة ما يصفه بـ”الليبرالية الراديكالية”. لم يكن إنشاء “مكتب الإيمان” سوى خطوة أخرى في هذا الاتجاه، تعزز صورته كحامٍ للمؤمنين، وتؤكد التزامه بسياسات تعيد الدين إلى قلب الدولة، في مواجهة ما يراه تيارًا يسعى إلى إقصاء الإيمان من الحياة العامة.
لكن اللافت في سياسات ترامب الدينية المحافظة، أنها لم تقتصر على حماية حقوق المؤمنين المسيحيين، بل ترافقت مع إجراءات تستهدف مجموعات أخرى، أبرزها المتحولون جنسيًا. فمنذ ولايته الأولى، انتهج ترامب نهجًا متشددًا تجاه هذه الفئة، بدءًا من حظر الجنود المتحولين جنسيًا في الجيش، وصولًا إلى إلغاء توجيهات تحمي حقوقهم في أماكن العمل والمدارس. وبينما يدافع أنصاره عن هذه السياسات باعتبارها إعادة لترتيب الأولويات بما يتماشى مع القيم الدينية التقليدية، يرى المعارضون أنها انتهاك لحقوق أساسية كافحت الحركات الحقوقية لعقود من أجل انتزاعها. وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: هل يمكن تحقيق التوازن بين حرية العقيدة وحماية الأقليات الجنسية دون أن يُفسَّر ذلك على أنه تقييد لحقوق أحد الطرفين؟
لم يكن لهذا التوجه أن يمر دون أن يكون له تأثير خارج الولايات المتحدة. فالسياسة لا تتحرك في فراغ، بل تتفاعل مع أمواج التيارات الفكرية والأيديولوجية التي تجتاح العالم. فحين يقرر رئيس أكبر قوة في العالم تبني سياسات أصولية، فإن تأثير ذلك لا يقتصر على الداخل الأمريكي، بل يتجاوز الحدود ليعيد تشكيل المشهد الأيديولوجي عالميًا. ففي أوروبا، حيث تتنامى الحركات القومية ذات التوجهات المسيحية المحافظة، قد يمنح هذا النهج دفعة إضافية للأحزاب والجماعات التي تسعى إلى فرض سياسات أكثر تشددًا ضد التعددية الثقافية وحقوق الأقليات، بحجة “حماية الهوية المسيحية”. أما في العالم الإسلامي، فقد يُنظر إلى هذا التوجه الأصولي من زاويتين: الأولى باعتباره استهدافًا ضمنيًا للإسلام والمسلمين، مما قد يؤدي إلى تصاعد تيارات أصولية مضادة تتبنى نهجًا أكثر تشددًا كرد فعل على ما يُ perceived كـ “حرب دينية” جديدة، والثانية كعامل تقارب بين التيارات الأصولية المختلفة، فبرغم الاختلافات العقائدية، فإن الأصوليين من مختلف الأديان يشتركون في رفضهم للتعددية ودفاعهم عن نموذج مجتمعي ديني صارم.
لكن المشكلة الأكبر تكمن في أن الأصوليات بطبيعتها لا تتسامح مع أي فكر مخالف، حتى لو كان قريبًا منها أيديولوجيًا. وإذا كان العالم قد شهد في العقود الماضية صدامات بين الأصولية الإسلامية والليبرالية الغربية، فقد نكون أمام مشهد أكثر تعقيدًا، حيث تدخل الأصولية المسيحية على الخط، ليس فقط ضد الليبراليين، بل أيضًا في مواجهة أصوليات أخرى ترى فيها تهديدًا دينيًا وثقافيًا. وهكذا، فإن التوجهات الأصولية لترامب قد تفتح الباب لصدام حضاري عالمي، حيث تتحول الأديان إلى وقود لمعركة سياسية وثقافية، لا أحد يعرف كيف يمكن أن تنتهي.
ليس من السهل التنبؤ بمستقبل هذه الموجة. فبينما يحظى ترامب بدعم قوي من التيار المحافظ، إلا أن المجتمع الأمريكي، بكل تحولاته، لن يتقبل بسهولة سياسات تبدو وكأنها رجوع إلى الوراء في ملف الحقوق المدنية. الديمقراطيون والمنظمات الحقوقية سيقفون في وجه أي محاولات للتراجع عن المكتسبات التي حققتها الأقليات الجنسية، والمحاكم ستكون ساحة لمعركة قانونية طويلة الأمد.
لكن ما يحدث اليوم ليس مجرد سياسة داخلية أمريكية، بل هو جزء من موجة عالمية تعكس قلقًا متزايدًا من التحولات الاجتماعية والثقافية. وفي ظل هذه الظروف، يمكن أن يتحول خطاب ترامب المحافظ إلى شرارة تُشعل موجات أصولية حول العالم، تدفع بالمجتمعات إلى حالة من التراجع الحضاري، حيث تُعاد صياغة العلاقات الاجتماعية والسياسية وفق منطق ديني صارم.
المخيف في الأمر هو أن هذه التحولات لا تحدث في فراغ، بل تترافق مع استقطاب عالمي متزايد، قد يؤدي إلى صدامات غير مسبوقة بين التيارات المتشددة، أو إلى تحالفات غير متوقعة تُعيد رسم المشهد السياسي والثقافي في العالم. نحن إذن أمام منعطف تاريخي بالغ التعقيد، حيث يمكن للأصوليات أن تكتسب زخمًا جديدًا، ما يثير مخاوف مشروعة حول مستقبل التعددية، والديمقراطية، والحريات الفردية.
فهل نشهد في السنوات القادمة ارتدادًا نحو العصور القديمة، حيث يحكم العالم منطق العقائد المتشددة؟ أم أن العقلانية ستنجح في احتواء هذه الموجة، قبل أن تتحول إلى إعصار يجتاح كل ما تحقق من تقدم؟