رحيل الصديق المفكر محمد حسن كامل : نعدك سنواصل إلقاء الحجارة في المياه الراكدة
منذ عدة سنوات تلقيت رسالة رقيقة منه يستأذنني فيها أن يجري معي مكالمة حينما يكون ذلك مناسبا، وكنت في ذاك الوقت أعمل ساعات طويلة تتجاوز الستة عشر ساعة في اليوم، وكان وقتي محدودا للغاية، ولكني، وهذه عادة ربما سببت لي الكثير من المتاعب، ذكرت له أن أي وقت يناسبه فإنه يناسبني.
كانت تلك الرسالة أول ما يمكن أن تعكس صفات الرجل وأسلوبه الراقي في التعامل، فلم يكن إلا رقة في التعامل، ولم يكن إلا التهذيب عينه. اتصل الرجل، فإذا به مادح لما نقوم به ولما ننشره من فكر وثقافة، وكان أول ما بدر منه، بتواضع العالم الكبير، أن عرض عليّ منصب رئيس اللجنة الثقافية والأدبية في رابطة الكتاب والمثقفين العرب، فشكرته على هذه الثقة، وانطلق في الحديث فإذا بالرجل يمتلك ثقافة موسوعية، جذورها ثابتة في أرض المعرفة تستقي من تراثنا العربي الإسلامي وفروعها ممتدة في سماء العلم والمعرفة متنقلا بين المعارف المختلفة عائدة دائما إلى تلك الجذور التي بمعرفته الواسعة في الثقافات المختلفة يزيدها ثباتا ويمنحها قوة على قوتها.
كانت محادثاتنا التي تمتد القصيرة فيها لتتجاوز الساعة ونصف عبارة عن محاورة فكرية راقية يأخذ كل منا الكلمة ليتحدث ما شاء له الحديث حتى ينتهي من فكرته ليلتقطها الآخر المكمل لتتوالد الأفكار الواحدة تلو الأخرى في تناغم فريد قلما حظيت به مع محاور غيره. كان المشروع الفكري الذي يجمعنا سويا هو إعادة الروح للثقافة العربية وبث نفس جديد في الفكر العربي يعيده للحياة التي امتلكها امتلاكا حينما انفتح الفكر العربي على الثقافات العظيمة وخاصة اليونانية التي كان العرب والمسلمون هم الأمناء عليها فحافظوا عليها وأضافوا لها وحملوا أمانتها بكل إخلاص وأوصولها لمن حمل رايتها مرة أخرى في أوروبا فكانت هذه النهضة الثقافية والفكرية والفلسفية والعلمية في أوروبا والتي منها جاءت الحضارة الحديثة. أتفقنا كلانا، أنا والراحل الكبير،
على أهمية الدور العظيم الذي قامت به الحضارة العربية الإسلامية للإنسانية من جانب، كما اتفقنا على ما يمر به العالم العربي الإسلامي من انحطاط من جانب آخر، وآمنا كلانا بقدرة هذا الإنسان العربي المسلم على العودة إلى التاريخ مرة أخرى، وليس الخروج منه كما كتب فوزي منصور "خروج العرب من التاريخ". كان طموح الصديق الراحل المفكر محمد حسن كامل صاحب نظرية النسبية الذهبية في القرآن، كبيرا وكان يعمل بكل جد واجتهاد لتحقيق هذا الطموح والذي كان يدرك أنه يحتاج إلى عشرات السنوات إن لم يكن القرون، فالرجل كان يدرك أن انتشال العقل العربي مما أصابه من جمود فكر وميل إلى الخنوع والراحة لن يأتي هكذا بجهد بسيط ولن يتحقق بين طرفة عين وانتباهتها، فهذا لم يحدث لأي عقل سبقه في الركود والانغلاق في الماضي، ولن يحدث في الحاضر أو المستقبل، لأننا نؤمن أن إيقاظ العقل من غفلته يحتاج قرونا، كما حدث للعقل الأوروبي الذي كان الرفيق والصديق الراحل دارس له دراسة مستفيضة والذي تناقشنا سويا كثيرا في كيفية تشكيل هذا العقل الحديث والذي هو امتداد للعقل العربي في قمة توهجه عند ابن سينا والفارابي والكندي وأبو بكر الرازي وابن رشد، هؤلاء الذين كان ممنوع ومحرم النظر في علمهم في أوروبا في عصر الانحطاط الأوروبي والتي كانت تهمة "العمالة" "للمحمديين" هي التهمة التي توجه لمن يتعلم وينشر فكر هؤلاء، ويا له من وجه شبه بيننا وبين أوروبا في عصورها المنحطة في عالمنا اليوم، حيث أنها نفس التهمة ولكنها معكوسة، فحينما يطالب أحدنا بالحداثة فإنه يتهم بالعمالة الغرب، وكأن التاريخ يعيد نفسه بين شاطئي المتوسط، فمن تهمة العمالة للمسلمين إلى تهمة العمالة للغربيين يظل العقل المنغلق في تيه عظيم. في آخر محادثة بيني وبين الراحل الغالي الصديق ورفيق الدرب المفكر محمد حسن كامل تطرقنا لنظرية الانفجار العظيم، وما يجب أن يستتبعها من نظرة للكون والعالم وكيف يمكن التوفيق بين المنجزات العلمية والتي تكاد تصبح حقائق يمكن إخضاعها للتجربة المعملية، وبين ما نمتلكه من تراث يجب الوقوف على الصالح منه ونبذ غير الملائم للعصر الحديث، وهو ما دفعه رحمة الله عليه للقول: أننا لا يمكن أن نتحصل على تلك النظرة إلا إذا تحصلنا على مفكرين لا يقلون جرأة عن مفكرينا الكبار في عصور تقدمنا، ولا يقلون كذلك في الشجاعة عن هؤلاء الذين واجهوا كل صنوف العذاب في عصور النهضة الأوروبية. حيث كنا نتفق على أن العقل الإنساني واحد ممتد مما قبل التاريخ حتى عصرنا الراهن.
في يوم رحيلك أيها الصديق العزيز والرفيق الغالي نعدك أن نظل على العهد باقين، ونعدك أننا سنواصل قذف الحجارة في المياه الراكدة إلى أن يقدر الله أمرا كان مفعولا، فيتحرر هذا الإنسان العربي المسلم الذي ساهم بسهم كبير في رقي العقل البشري في رحلة تاريخه الناصعة ونؤمن أنه يستطيع ان يعيد الكرَّة.
