مذكرات مهاجر مجهول (26)

بقلم/د.أشرف يعقوب

و تقدمت بالسيارة الجيب ببطء على الطريق المتجمد أسفلته. و سمعت تكسرات الطبقة الجليدية الرقيقة تحت سلاسل العجلات الحديدية. و مع ذلك احسست ان اي فرملة سريعة او ثقيلة ستجعلني اخرج عن الطريق و قد اسقط في الهو الساحق الذي يوجد الطريق على حافته.
كنا في حوالي الثالثة بعد الظهر، فقلت في نفسي ان المسافة للوصول لهذا المكان هي ١٥ كيلومتراً و لذلك سأستطيع العودة قبل الظلام الذي كان يحل في الرابعة و النصف.
و لكن الطريق كان متعرجا و فيه منحنيات و مرتفعات و منازل كثيرة تجبرك على السير ببطء. و عند ثلثي الطريق تقريباً خرجت من الطريق المسفلت الى طريق ترابي ملئ بالحفر و مغطى بالثلوج. كان هذا الطريق مستوياً في البداية و لكن سرعان ما بدأ في الارتفاع بحدة. فاضطررت لوضع المارش الاول لدفع العربة الثقيلة في هذا الارتفاع الحاد. فزمجرت الجيب و هي ترتفع بالعافية على الطريق البري العمودي تقريباً. وصلت بعد حوالي ساعة.و أخيرا رأيت المنزل المطلوب مني الوصول اليه بمدخنته و سقفه المدبب المغطى بثلوج متراكمة.
و ركنت السيارة في ساحة المنزل و رأيت أن درجة الحرارة في الخارج تبلغ ٣٢ درجة تحت الصفر. و نزلت من السيارة فلفحني الهواء المتجمد و كأنه لوح ثلج ارتطم بوجهي. و حمدت الله انني استطعت ان اصل لهذه البقعة النائية على قمة احدى جبال الالب بسلام، على الاقل حتى الآن. كان بخار تنفسي يكاد يتجمد فور خروجه.
تأملت البانوراما البديعة من حولي، قمم الجبال المغطاة بالثلوج و السحب المنخفضة تحتي تتحرش بها بينما تسطع الشمس في سماء زرقاء صافية. الحقيقة فهمت هنا لماذا يختار بعض الناس العيش في هذه الأصقاع النائية.
طرقت الباب ففتح لي رجل كبير السن ذو لحية طويلة و بيضاء و على رأسه طرطور اخضر يخرج من تحته شعره الابيض الكثيف فظننت انني جئت الى بيت بابا نويل. رحب بي بكلمات غير مفهومة و ادخلني مباشرة الى غرفة نوم زوجته في الطابق الأول. كانت البيت دافئا ، تدفئه دفاية من حجر مزخرفة برسومات خضراء عتيقة ، تعمل بوضع الخشب فيها ، و كانت من النوع المعروف هنا بالدفاية التيروليزي، اي المصنوعة بتقاليد اقليم التيرول الواقع بين النمسا و ايطاليا. كانت رائحة المنزل قوية يختلط فيها رائحة النبيذ المتخمر مع رائحة السجق المدخن و رائحة بول المصنن. كلمني الرجل باللغة الايطالية و لكن بلكنة المانية قوية فهو كمعظم الناس في هذا الاقليم يتكلمون فيما بينهم بلغة تشبه الالمانية برغم تبعيتهم لإيطاليا.
كانت المرأة مرتفعة الحرارة و لكن كان تنفسها طبيعيا و صدرها سليم و علاماتها الحيوية في الحدود العادية ، و لذلك لم اطلب سيارة اسعاف. حدثتني عن حرقان عند التبول فعرفت ان المشكلة هي التهاب في المسالك البولية فأعطيتها حقنة من الجنتاميسين في الوريد و تركت لها مضاد حيوي و مخفضات للحرارة. تركت المنزل قائلا للزوج ان يطلبني في التليفون اذا لم تتحسن و قلت له اني سأكلمه في الغد للاطمئنان.
بدأت رحلة العودة و قد بدأ ثلج جديد يهطل مدراراً من السماء بعد ان نزلت تحت السحب المنخفضة. اصبحت رؤية الطريق صعبة جداً و خاصة ان الشمس قد اختفت خلف الجبال في طريقها للغروب. كانت العربة دائما على المارش الاول و رجلي على الفرامل بخفة حتى لا تتزحلق السيارة و ننتهي في جوف الوادي السحيق تحتنا. و وصلت لكوخي بعد ساعة من خروجي من منزل المريضة و ما إن وصلت حتى رن جرس التليفون و اخبري احدهم ان لديه طفل يعاني من آلام في بطنه و سخونة، فخرجت مرة اخرى بعربتي الجيب ذات السلاسل الحديدية لاواجه الصقيع الصامت و الغابات الكثيفة و الجبال الشاهقة بينما يصاحبني في وحدتي قمر بدر كامل التمام يظهر و يختفي بين السحب و الأشجار العالية.
و هكذا ظللت الايام الثلاثة الف و ادور بسيارتي الجيب في مسالك و مهالك جبال الالب. و لم اكن استطيع النوم لتوقعي الدائم ان يرن التليفون.
و عدت لمنزلي في عصر الاثنين و انا هلكان و نمت مباشرة حتي صباح الثلاثاء حيث كان علي ان أذهب لبادوفا لعمل بحث القساطر الشهيرة في كلية العلوم. كان عملا مرهقاً للغاية و تسألت كم من الوقت سوف اتحمل هذا الروتين الشاق.
و بعد اربعة أشهر وصلني خطاب من احدى المنظمات الصحية التطوعية في ميلانو يدعونني لمقابلة معهم لمعرفة مدى صلاحيتي للعمل في مستشفى في الصومال و الذي كان في حالة حرب مريرة وقتها. و كان المرتب المعروض لهذا العمل هو اربعة ملايين ليرة (حوالي الفين يورو) في الشهر و كان مرتب محترم جداً في ذلك الوقت.
و استيقظت في الفجر و اخذت القطار لميلانو متذكرًا ايام ميلانو و مستشفى البولي كلينيكو.
و ذهبت مباشرة لهذه المنظمة و عندما دخلت الشقة التي كانوا يتخذونها كمقر، و جدتها تجلس في الصالون ، فلم اصدق عينيّ ، كانت هي ، اجمل من رأيت في حياتي.