مذكرات مهاجر مجهول (22)
المصريين بالخارجبقلم/د.أشرف يعقوب
وجاءتني بطريق البريد الشهادة الخاصة بالحصول على الجنسية الايطالية. كان حصولي على الجنسية الإيطالية مهم جدا من الناحية البيروقراطية و يسهل لي اموراً كثيرة و يحل لي مشاكل عديدة كانت تحدث بشكل يومي. و لكنهم اخطأوا في لقبي، و هذه مشكلة عامة تحدث للمصريين عادة عند اقامتهم في بلاد اوروبا او امريكا و خاصة اذا اخذوا الجنسية. فلقبي هو يعقوب و لكننا مضطربين لكتابة الاسم الثلاثي في جواز السفر. و اسمي المكتوب في جواز سفري المصري هو أشرف علي عبد الرحمن احمد و بعدين يعقوب.
و لكن من جواز السفر المصري لا يفهم ما هو الاسم و ما هو اللقب ، و حيث انه في الاوراق الرسمية الإيطالية و الاوروبية و الامريكية عامة يكتب اللقب بعد الاسم مباشرة و لايوجد الاسم الثلاثي، اصبح اسمي في وثيقة الحصول على الجنسية الإيطالية هو أشرف و لكن اللقب كان "علي عبد الرحمن احمد يعقوب". كل ده لقب!! و كانوا يسألوني لماذا يوجد لي خمس القاب؟
و كانت مشكلة كبيرة. كل اوراقي الرسمية بهذا اللقب الطويل جدا!! و اضطررت لإصلاح هذا عن طريق المحكمة الادارية العليا في روما بعد تقديم طلب على يد محامي و انتظار سنة و نصف حتى تمت الموافقة على تعديل لقبي ليكون فقط "يعقوب". و صرفت في هذا مليون و نصف مليون ليرة، غير مصاريف السفر لروما لاستلام وثيقة التعديل و نشرها، على حسابي في الجريدة الرسمية الإيطالية.
و الحقيقة ان الخطأ بدأ في مصر. ففي رأيي ان في الجوازات المصرية يجب مراعاة توضيح ما هو الاسم و ما هو اللقب و الاستغناء عن الاسم الثلاثي لأنه مدعاة للخطأ و مشاكل لا داعي لها. ارجو ان يصل هذا للمسئولين في مصر حتى يراعي في الجوازات الجديدة و خاصة أن مصر حاليا تتطلع لتعاون دولي كبير في نهضتها الرائعة الحالية.
و حدث ايضا خطأٌ آخر ، و لا ادري لماذا حدث حتى الآن ، هو انهم كتبوا مكان ولادتي في "فينزويلا ". اقسمت لهم انني ولدت في القاهرة و ان امي لم تذهب الى فينزويلا ابدا، و لكن كان لابد من ترجمة شهادة ميلادي و تقديمها مرة اخرى للسلطات الإيطالية و الحمد لله نجحت في تصحيح هذا أيضا.
و في مراسيم ضئيلة جدا، تم اثبات جنسيتي الإيطالية امام عمدة بلدة "كاربونيرا " التي كنت اعيش فيها في ذلك الوقت، بحضور زوجتي و ابنتي سارة التي كان عمرها سنة و ثلاثة اشهر. هذا يختلف تماما عن المراسم الفخمة الضخمة التي عملت لي، مع مجموعة من خمس اشخاص آخرين ، عندما حصلت على الجنسية البريطانية.
و بعد مرور حوالي اسبوع وصلني على البيت خطاب استعداء من الجيش الايطالي!؟ ايه هو قامت حرب ولا ايه؟ سبحان الله آخذ الجنسية الايطالية و بعدها باسبوع تدخل إيطاليا حرب الله اعلم مع مين؟
و كان عليّ ان اكون في السابعة صباحا من اليوم التالي في احدى ثكنات الجيش الايطالي بالقرب من بادوفا.
و في الحافلة التي اقلتني لهذا المكان تذكرت خدمتي في جيش مصر الحبيبة. و سرحت في الزمان و المكان و الوجوه و الاصوات. سمعت من حديد هدير جنازير الدبابات و تكتكات البنادق و هبدات المدافع و اختراقات المقاتلات لحاجز الصوت على ارتفاع بسيط من الرمال.
و شممت من جديد رائحة بترول الدبابات و طبيخ مطعم صف الضباط و عبق المطهرات في الكوخ الذي كنت انام فيه.
قضيت، كطبيب مجند، خدمتي العسكرية في الكتيبة السادسة من اللواء الثاني من الفرقة ١٩ في الجيش الثالث الميداني.
اللواء الثاني، و منه كتيبتي، كان مرابطاً على مشارف مدينة السويس الجميلة و وظيفته الاساسية هي حماية مدينة السويس و المدخل الجنوبي لقناة السويس. و كان قد خدم في هذه الكتيبة نفسها ثلاثة من رؤساء مصر العزيزة. خدم فيها الرؤساء جمال عبد الناصر و انور السادات و حسني مبارك قبل ان يتحول للطيران. و كان صف الضابط المسؤول عن الشئون الإدارية فيها فخوراً بذلك جداً. كانت كتيبة مشاه ميكانيكية و هي من اقدم الكتائب في الجيش المصري.
كنت اقيم في كوخ صغير على اطراف الكتيبة و كنت طبيبها الوحيد. و كان هذا الكوخ هو محل اقامتي و أيضا العيادة و الصيدلية و كنت سعيد به. و كان في صيدليتي كل ما يلزم لطبيب في حالة الحرب و عدد كبير من عبوات جاهزة للحقن من المورفين و مضاد تسمم عضة الثعابين. و كان سلاحي دفاعي فقط كما تلزم به القوانين الدولية كوني طبيب و كان عبارة عن طبنجة ثقيلة الوزن كنت اضعها تحت مخدتي عندما انام.
و عرفت فيها ابطال حاربوا في حرب اكتوبر المجيدة. كان قد مر على هذه الحرب تسع سنوات و كان معظم من خاضوها مازالوا في الخدمة و حكوا لي عن هذه الحرب. كانت تنتاب معظمهم حالة من الافتخار و السعادة و هم يحكون لي قصتهم مع هذه الحرب.
كانت الكتيبة السادسة في النسق الثاني للعبور و عبرت قبلها الكتيبة ٢٢ كنسق اول و التي ضحت بمعظم رجالها كما فهمت منهم. وصل اللواء الثاني الى جبل المر في الضفة الشرقية و رابط هناك و حافظ على مواقعه طيلة الحرب و التي استمرت حوالي شهر كامل. و ذلك رغم الغارات المستمرة من الطيران الاسرائليي.
عرفت ان طبيب الكتيبة وقتها استشهد في الحرب ، و كنت قد اُعْلِمت من القادة انني يجب الا ابعد اكثر من ٢.٥ كيلومتر من خط قتال كتيبتي. و هذا يفسر عدد الاطباء الذين استشهدوا في حرب اكتوبر.
و قال لي احد صف الضباط الذين كنت اتناول طعامي معهم في مطعمهم ان الحرب "ممتعة". و حكوا لي ايضا انهم انتقموا من الجنود الاسرائيليين اشد انتقام خلال هذه الحرب، و انهم يتحدون الحكومة الاسرائيلية ان تعلن كم هو العدد الحقيقي لقتلاهم في حرب اكتوبر. و حكى لي احدهم انه يعرف شخصيا صف ضابط مصري ربط اربع عشرة جنديا اسرائيليا على الارض في صف واحد ثم مشى بالدبابة فوقهم. و يبدو ان الحكومات الاسرائيلية تخفي هذه الاحداث و لا تريد ان تعلنها لخوفهم من انهيار الروح المعنوية لجنودهم.
و اعتقد اننا كمصريين يجب ان نتوقف عن اعتبار انفسنا دائما ضعاف و طيبين و مظلومين و ضحايا. نحن المصريون اذا اردنا نكون في منتهى القسوة و العنف، على اعدائنا طبعاً. و قد سمعت قصص اخرى مشابه. و قد يكون من صالحنا ان تتسرب هذه القصص! فهذا يؤكد للجندي المصري قوة شكيمته و بأس غضبه و شدة شراسته اذا اراد. فالجندي المصري ليس هو من حفر قبره في حرب ١٩٥٦ قبل ان يقتله الاسرائليين، و ليس من هو استسلم بملابسه الداخلية بدون قتال في حرب ١٩٦٧. لا لقد كان الجنود المصريين في غاية الشراسة و التجبر و لم يرحموا من وقع في ايديهم من جنود العدو.
كانت الكتبية دائمة التدريب و ادينا اثناء سنة خدمتي ثلاثة مشاريع بالذخيرة الحية. و رجعت من آخر مشروع بالذخيرة الحية مع قصف حي من الطائرات في آخر يوم في خدمتي و كنت بالشدّة الثقيلة و بالخوذة و ووجهي مسود من دخان القنابل و كان ينتظرني طبيب الوحدة الجديد و قال لي مندهشاً " هو دكتور الكتيبة بيلبس كده برضه ؟. رديت عليه بابتسامة "طبعاً".
كانت ايام جميلة و احمل عنها اجمل ذكريات حياتي.
وصلت للثكنات في بادوفا و وضعونا في طابور طويل و اختاروا طوال القامة منا و ذلك لاخذهم لسلاح ال"كورَّتزييري" و هو الخاص بالتواجد في المراسم الرئاسية و حراسة الاماكن المهمة و النصب التذكارية. عملوا لنا كشف طبي شامل و تحليل دم روتيني و اعطونا وجبة غذاء باردة و بقينا حتى الثالثة بعد الظهر تقريبا و تركونا نذهب لبيوتنا و اخبرونا اننا سوف نستلم بالبريد خطاب منهم على بيوتنا.
و بعد ايام وصل لي على البيت خطاب و شهادة اعفاء من الخدمة العسكرية في الجيش الايطالي رغم نجاحي في الكشف الطبي و ذلك بسبب اني متزوج و لي ابنة. فحمدت الله كثيرا على ذلك. و بعد سنين قليلة الغوا الخدمة العسكرية الاجبارية في ايطاليا كما يحدث في معظم الدول الاوروبية في الوقت الحالي.