مذكرات مهاجر مجهول الجزء الثاني.. 19

اشرف علي يعقوب

و في يوم من هذه الايام قال لي احد مندوبي شركة "باير" انه يريد ان يبدأ في عمل احد الابحاث على اثار عقار جديد ابتكرته شركته و نزل حديثا في السوق. شركة باير هي الاكبر من الشركات الالمانية في صناعة الأدوية و مخترعة عقار الاسبيرين الذي يستعمل حتى الآن يوميا من ملايين البشر في جميع انحاء العالم. قال لي انه سمع بوصول الجهاز الياباني الوحيد من نوعه في اوربا، و اخبر رؤساءه بذلك و هؤلاء تواصلوا مع الشركة الام في برلين و امروه بالتحدث معي عن اجراء ابحاث معهم.

فرحت جدًا طبعًا بهذا العرض و العمل مع شركة باير. كان العقار المطلوب اختباره هو واحد من مجموعة الادوية التي تسمى بالاستاتينات. و هذه العقاقير كانت و ما زالت تستخدم في تخفيض معدلات الكوليسترول في الدم عن طريق تعطيل احد الانزيمات اللازمة لانتاجه في الكبد. كان اسمه "سريڤاستاتين". اخبرت المندوب بموافقتي على ذلك فسعد بذلك جدًا و ابلغ الشركة الام التي ردت بسرعة غريبة بأنها سوف ترسل مسئولهم العالمي عن الابحاث الى مونتيبللونا للتحدث معي في بروتوكول بحث يريدون عمله عن تأثير السريڤاستاتين على بقايا الكوليسترول.

اخبرت رئيس القسم دكتور بولييزي الذي وافق على اجراء البحث في عنابر قسمه و لكنه حذرني من أن يؤثر هذا على نوعية و جودة عملي السريري.

و في يوم وصول رئيس قسم الأبحاث العلمية في شركة باير القادم من برلين جهزت قاعة الاجتماعات في المستشفى و حددت ميعاد اللقاء في منتصف النهار بعد المرور على المرضى. و حضر معي رئيس القسم الدكتور بولييزي و نائبه الدكتور انطونيو ڤولبي. وصل الضيف المهم و معه مندوب شركة باير الذي أعد اللقاء معنا. و عندما شاهدناه يدخل القاعة اصبنا بدهشة بالغة حتى أن الدكتور ڤولبي فتح فاه في تعبير ملحوظ عن دهشته. كانت المفاجاة أن الدكتور ذو المركز المرموق جدًا عالميًا كان شاب في اوائل الأربعينات، شديد الأناقة ، و أسود اللون كالفحم. كنا ننتظر ألمانيًا في الستينات من عمره ، أشقر، و ذو عينان زرقاوان.

بعد التحية و السلام مال عليّ الدكتور ڤولبي و قال همساً : "لابد و أن هتلر يتقلب الماً في قبره". كان هتلر الزعيم النازي يعتبر البشر من ذوي اللون الاسود "ليسوا بشراً"، و انه يجب معاملتهم كسلالة "تحت بشرية"، و انه لا يجب اضاعة الوقت حتى في تعليمهم حتى القراءة و الكتابة. و في اولمبياد ١٩٣٦ الصيفية التي عقدت في برلين رفض هتلر مصافحة و اعطاء الميداليات للعداء الامريكي الاسود “جيسّي اوينز" الذي فاز بأربع ميداليات ذهبية في هذه الدورة.

هذا أكد لي أن التعلم هو الطريق السليم الوحيد لرفع الإنسان من قاع المجتمعات لأرقى الأحوال و المراكز. و العلم هو الطريق الوحيد لجعل البلاد و الافراد راقية و غنية و قوية. العلم هو الطريق الوحيد لتقدم الشعوب. دهشنا لرؤية شركة ألمانية يدير اهم فرع فيها واحد من صاحبي البشرة السوداء ولد في ناميبيا التي كان يستعمرها الالمان و ابادوا في مجزرة وحشية حوالي الثمانين في المائة من شعبها الاصلي. و قد قامت المانيا أخيرا بالاعتراف و الاعتذار عن هذه المذبحة و سوف تقوم أخيرا بتعويض ناميبيا ماليا واجتماعيا عنها.

تحدثنا عن بروتوكول البحث الذين يريدونه و اتفقنا على خطوات العمل و أخبرني انه يريد أن تشترك معي مستشفيات اخرى في ايطاليا و فرنسا و المانيا نفسها، و انني سوف أكون الباحث الرئيس و المسؤول عن إدارة و نتائج البحث. و اخبرني انه سيكون لي مكافاة مالية معتبرة بعد نشر البحث ، بالإضافة الى تحمل كافة التكاليف بواسطة شركته. لم اصدق نفسي ففجأة اصبحت مسئول عن بحث عالمي تقوم به شركة باير و ايضا سوف احصل على مكافأة مالية محترمة.

و بدأت العمل بجدية في تحضير مشروع البحث على مرضى السكري و القلب و استخدام السريڤاستاتين في تخفيض بقايا الكوليسترول عند من يكون لديه مستويات طبيعية من الكوليسترول الكلي. اظهرت الدراسات الاولية انه من دون استخدام الدواء ان مستوى بقايا الكولستيرول عالي بدرجة ملحوظة في السكريين المصابين بجلطات القلب عّن من منهم لم يصب بجلطات القلب. إذن بقايا الكولستيرول هي أخطر جزيئاته و المسبب الاكبر لتصلب الشرايين.

كان الاتفاق هو أن باير ترسل لي السريڤاستاتين بكميات كافية بعد أنتهاء الدراسات الأولية.

و لكن "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن".

ظهر من ملاحظات "ما بعد التسويق" أن السريڤاستاتين دواء ضار جدا بسبب انه يؤدي لخلل في تغذية العضلات مما يؤدي لتحللها. و قد ادى لوفاة اربعة و خمسين من المرضى بعد استخدامه مباشرة بسبب تحلل كاسح للعضلات و فشل كلوي حاد. وقع هذا الخبر عليّ كالصاعقة و قررت التوقف عن هذا البحث على السريڤاستاتين و أخبرت شركة باير بذلك فقال لي "نتفهم ذلك و نشكرك"، و فعلا قامت شركة باير بعدها بأسابيع قليلة بالتوقف عن انتاج السريڤاستاتين تماما و سحبت ما كان منه موجودًا في اسواق العالم بالكامل.

اما انا فأكملت دراساتي بإستخدام دواء آخر من مجموعة الاستاتينات و هو "اتورڤاستاتين"، و ثبت انه فعال و آمن حتى في مرضى الفشل الكلوي المتأخر، و قدمت هذه الأبحاث في عدد من المؤتمرات الايطالية و العالمية. و كان من نتيجة هذه الدراسات و دراسات مشابهة في كل انحاء العالم انه اصبح من الروتين اعطاء الاستاتينات لكل مرضى تصلب الشرايين بصرف النظر عن مستوي الكوليسترول عندهم. ادى هذا لانخفاض معدلات الاصابة و الوفيات من امراض الجلطات الدماغية و القلبية بصورة درامية.

و قد قابلت رئيس قسم الابحاث الالماني الاسود مرة اخرى في برلين سنة ٢٠٠٨ عندما دعتنا شركة باير لزيارة مقرها الرئيسي. قال لي ضاحكًا و هو يحييني بحرارة "كان بحثك رائعا و لكن الدواء كان خاطئًا ، و هذه كانت غلطتنا نحن، و انت اثبت أن عقار فايزر المنافس لنا "اتورڤاستاتين" آمن و فعال، لقد خربت بيتنا يا راجل، لقد خسرنا ملايين ".