×
17 شوال 1445
25 أبريل 2024
المصريين بالخارج
رئيس مجلس الإدارة: فوزي بدوي
مقالات

مذكرات مهاجر مجهول (30)

المصريين بالخارج

واخبرني البروفيسور بانيان انه وجد لي مكاناً في المدرسة التخصصية في امراض الباطنة بكلية الطب بجامعة بادوفا و هي المدرسة التي كان يديرها هو. كان تقدير كبير من جانب البروفيسور حيث ان القبول في هذه المدرسة كان صعبا جدا و لم يكن هناك اكثر من خمس اماكن كل عام، و دخولي هذه المدرسة التخصصية اثار حسد، بل و غضب، الكثيرين ممن كانوا يريدون ان يدخلوها. و الميزة المهمة كانت انني سوف آخذ مرتب مليون و ثمانية مئة الف ليرة (المساوي لتسع مئة يورو) شهريا و كان هذا المرتب مرتبا محترما في تلك الايام.

فرحت جدا فهذا كان يعني دراسة مثمرة و متجددة و تخصص ثاني في امراض الباطنة بجانب تخصصي الاول في أمراض القلب ، و حصولي على مرتب شهري مضمون لمدة خمس سنوات ، و استمراري في ابحاثي التي بدأتها في كليتي الطب و العلوم ببادوفا.

كنا خمسة اطباء فقط انا و اربعة من مدينة فينيسيا ، و كنا نواظب على حضور المحاضرات في بادوفا بينما كنا نؤدي مروراً صباحياً و نبطشيات ليلية في مستشفيات الجامعة في بادوفا و كاستل فرانكو. و هكذا كنت اخرج من بيتي في الصباح الباكر لأذهب من تريفيزو الى كاستل فرانكو ثم بعد الغداء اذهب الى بادوفا اما لحضور المحاضرات في كلية الطب او لعمل التجارب على الارانب بالقساطر الشهيرة في كلية العلوم. و كنت اعود هالكاً لبيتي في التاسعة مساءًا. كنا اقود سيارتي حوالي ١٢٠ كيلومتر كل يوم. كان عملاً مرهقًا و لكني كنت سعيد به جداً.

و بعد شهور قليلة ارسلني البروفيسور و معي احد الزملاء الى لندن لزيارة قسم امراض الاوعية الدموية الذي كان يرأسه بروفيسور يوناني شهير بأبحاثه في هذا المجال. و كان الغرض من الزيارة هو معرفة اللازم لفتح و ادارة عيادة خارجية للاشخاص المصابين بأمراض تصلب الشرايين و الاوردة و التعرف على اساليب العلاج الجديدة التي ابتدعها هذا الطبيب اليوناني.

رأيت لندن لأول مرة، و عشقت هذه المدينة الضخمة العظيمة الجميلة. مساحات خضراء رائعة، و متاحف مذهلة، و مسارح و مطاعم و نشاطات ثقافية و سياسية من كل نوع، و خطوط مترو تحت الارض ، عديدة، تحملك الى كل مكان في العاصمة المتسعة في دقائق قليلة. فعلا عاصمة لامبراطورية لم تكن تغرب الشمس عن اراضيها و منها كانت تدار بكفاءة مذهلة. و بعد ذلك بسنين طويلة و عندما عشت في بريطانيا عرفت ان البريطانيين ليسوا من محبي و دؤوبي العمل كما قد يفهم من مدى تقدمهم الاقتصادي و التكنولوجي، و لكنهم اداريون بدرجة ممتازة، و هذا هو سبب نجاحهم الاول. و سنتكلم عن بريطانيا و اهلها في الجزء الثالث من هذه المذكرات عندما ابدأ في حكي قصة انتقالي لها و حياتي فيها.

هالنا عدد الاجانب في لندن فقد كان و ما زال عددهم اكبر من عدد الانجليز من اهلها. ناس من كل بقاع و اجناس الارض و فيها تسمع و انت سائر في شوارعها الانيقة كل لغات العالم. لندن هي فعلا "سرة العالم" كما تقول أغنية المطرب الايطالي جيوفانوطّي الشهيرة.

و بينما كنت اجلس بعد العمل في حديقة هايد بارك و أتأمل بركتها الجميلة تذكرت عملي، لمدة عام و نصف، مع الانجليز في القاهرة اعوام ١٩٨٥ و ١٩٨٦.

بعد ان انهيت خدمتي العسكرية قابلني صديقي و زميلي و جاري الدكتور فريد زينهم بالصدفة في شارع مدرسة ولي العهد في العباسية حيث كان يسكن و قالي لي بعد السلامات و التحيات انه يعمل في مشروع النفق الصحي الكبير، تحت ارض القاهرة، كطبيب، و انهم يريدون اضافة طبيب آخر لطاقم العمل. قلت له نعم و سألته عن طريقة تقديم الطلب. قال لي تعالى معي لبيتي لاعطيك كتيب يشرح لك نوعية و طريقة العمل في هذا المشروع و الدور المطلوب منا فيه كأطباء. و قال يجب عليك ان تذاكر، بل و تحفظ صم، هذا الكتيب لأنك سوف تؤدي اختباراً كتابيا فيه قبل قبولك بالعمل.

تصفحت الكتيب الذي كان باللغة الانجليزية. كان يتحدث عن طب الاعماق و العلاج في غرف الضغط و العمل تحت ضغط جوي أعلى من الضغط الجوي الطبيعي و ما قد يؤدي هذا الي امراض مختلفة و كيفية علاجها.

كان موضوعاً جديدًا و شيقًا بالنسبة اليّ و لم يكن لي اي خبرة او حتى معرفة به. و تعجبت ماذا يراد بمشروع مثل هذا في وسط القاهرة. الحقيقة ان المشروع كان يتطلب حفر نفق عرضه خمسة امتار تحت شوارع و عمارات القاهرة، بعرضها كله تقريبا، لجمع مياه المجاري و حملها خارج المدينة لإستخدامها في الاغراض الزراعية و كسماد. كان يجب حفر النفق عل عمق ٢٠-٣٠ متر بواسطة حفارة عملاقة، نمساوية الصنع، ذات مروحة من الصلب الشديد، تدور افقيا لثقب الارض، و تترك ناتج الحفر خلفها حيث يزيله العمال بأيديهم و يحملونه في جرادل ضخمة تصعد لسطح الارض بواسطة رافعات مهولة.

و لأن القاهرة توجد بجانب نهر النيل فإن اي حفر تحت ارضها يؤدي سريعا الى ظهور المياه الجوفية التي لا تمكن الحفارة و لا العمال من العمل. كان يجب دفع الهواء بواسطة ضاغط عملاق لرفع ضغط الهواء في نفق الحفر و ذلك حتى يمنع خروج المياه الجوفية من الارض الى النفق لتمكين الحفارة من التقدم فيه بسهولة و بدون او يتعرض العاملين للغرق (و هذا ما حدث بعد ذلك للاسف و غرق في ذلك الحادث الاليم اربعة عمال اجانب افارقة). وكان ضغط الهواء في النفق يزيد مع زيادة عمقه.

فهمت من الكتيب ان ضغط الهواء العالي ، و قد حدث ان أوصلوا الضغط في النفق الي ٣٠ مرة ضعف الضغط الطبيعي عل سطح الارض، يؤدي الى ذوبان كميات كبيرة من الهواء نفسه في دماء العمال. ليس في هذا مشكلة طالما كان الهواء ذائباً تماما في الدم. و لكن اذا ازيل الضغط فجأة أو عاد الانسان للضغط العادي بدون تدرج، تتولد من الهواء الذائب فقاعات كبيرة تسد شرايين الجسم و تؤدي لحدوث جلطات بشعة في المخ او القلب او الرئتين مما قد يؤدي للوفاة.

كان علي كطبيب ان انزل الى النفق لاسعاف اي عامل يتعرض لحادث او مرض اثناء وردياتهم التي كانت تدوم ثماني ساعات. كان العمل على مدار الساعة ٢٤ ساعة في ٢٤ ساعة. و عند خروج العمال كان عليهم دخول غرف الضغط التي يرفع فيها ضغط الهواء الى نفس الضغط الذي كانوا يعملون فيه، ثم يتم انزال هذا الضغط تدريجيا، حسب جداول معينة، لفترة لا تقل عن ساعة او ساعتين، و في بعض الاحيان قد تصل لاربع ساعات، حتى يتعادل الضغط في الغرفة مع الضغط الجوي الطبيعي فتفتح الغرفة و يخرج العمال. كان العمال يدخلون الغرفة الصغيرة نسبيًا بسرعة عندما يخرجون من النفق، و يستلقون على دكتين فيها او على الارض و ينتظرون في صبر عجيب الى ان تنتهي عملية خفض الضغط تدريجيا ، و كان عملنا ايضا كأطباء هو الاشراف على هذه العملية و الدخول مع العمال في غرفة الضغط اذا حدث ان كان واحد منهم مصاب او مريض ( و قد حدث أن قضيت يوم و نصف داخل الغرفة مع عامل انجليزي "زوغ" من عملية تخفيض الضغط و لكنه كاد يموت في التاكسى الذي اخذه من امام الموقع و لحسن حظه فهمه سواق التاكسي و حمله عائدا الى الموقع). و كنا كلنا دائماً نحمل بطاقات مكتوب عليها باللغتين العربية و الانجليزية " اذا وجدتموني فاقداً للوعي ارجو منكم ارجاعي لموقع الشركة على عنوانها في الزاوية الحمراء".

درست الكتيب جيداً و بفضول و بعد عدة ايام كلمني فريد في التليفون و اخبرني انهم سيجرون اختباراً كتابياً لي مع مرشح آخر لإختيار واحد منا للوظيفة.

حضرت يوم الاختبار و كنا اثنين فقط. قال لي زميلي المنافس بصراحة غريبة انه لا امل لي في هذا الوظيفة لأنه من المقرر أخذه هو لأنه ابن احد كبار المديرين في الشركة. و كان هذا المشروع هو مشروع تعاوني بين شركة المقاولين العرب و شركة انجليزية تابعة للحكومة البريطانية و شركة نمساوية. و رغم ما قال لي فقد اصريت على ان انهي الامتحان بجدية و كأنني لم اسمع منه شيئاً، بينما كان هو ينظر لي بتهكم و سخرية، و اعتقد انه لم يكتب شيئًا في ورقته ، بينما ملأت انا عدة صفحات من الاجابات على الاسئلة التي كانت تتعلق بأدق تفاصيل العمل الذي كان يعني في الحقيقة مسؤولية رهيبة.

عدت للمنزل و انا حزين لانهم استخدموني لتبرير امتحان لا لزوم له و اضفاء الشرعية على تعيين مباشر لدكتور آخر بالواسطة.

و فعلا في المساء كلمني فريد و قال لي انهم اختاروا منافسي لأن اجاباته "كانت احسن من اجاباتي"، و لكني عموما نجحت في الامتحان، و معلش "هاردلك". قلت له انني توقعت ذلك فلا عليك ايها الصديق العزيز.

و لكني فوجئت بعد حوالي عشرة ايام ان يكلمني فريد ليخبرني ان منافسي ابن المدير المهم انسحب من الوظيفة بعد ايام قليلة من العمل لأنه "اترعب" اي اصابه الرعب بعد اول نزولة له في النفق. و قال لي فريد انهم يريدونك ان تبدأ العمل غداً. قلت له "اوكيه ".

ايامها كنت قد بدأت العمل في المستشفى الايطالي و لكن مرتبي كان صغيرًا ، اما في هذا المشروع فكان المرتب حوالي الف جنيه في الشهر و كان هذا مرتبًا خيالياً ايامها. لم اكن استطيع الرفض. و لكني كنت احب العمل في العناية المركزة و من الناحية العلمية العمل فيها كان اهم بالنسبة لي.

قررت ان اعمل في كلا الوظيفتين، و ساعدني الحظ ان مدير اطباء المشروع وافق على اعمل فقط بالليل من السابعة مساءا حتى السابعة صباحًا. و كانوا يسمونني في الموقع "ملك الليل". كنت اعمل في المستشفى الايطالي من الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر ، ثم اذهب للبيت فأنام كالقتيل حتى السادسة ثم اذهب للموقع فأقضي الليلة فيه. اما ليلة راحتي الاسبوعية في المشروع فكنت اقضيها في عمل ليلتي الاسبوعية في العناية المركزة.

كان يعمل معي بالتناوب ممرضين انجليزيين، بيتر و مالكوم، كلاهما كانا من ممرضي البحرية الملكية البريطانية على المعاش. و كان كلاهما على خبرة كبيرة في طب الاعماق و غرف الضغط حيث عملا لسنين طويلة في سلاح الغواصات البريطانى. كانت لهم غرفتهم اما انا فكنت استعمل غرفة المدير و احياناً اذا كان الحال هادئا استطيع ان "امدد " نفسي على سرير الكشف على المرضى ساعة او اثنين في الليلة. و لكن المشكلة ان هذه الغرفة كانت قريبة من الضاغط العملاق و الذي كان يحدث ضوضاء فظيعة عبارة عن عويل عالي رهيب لا يتوقف أبداً. وكنت انا رئيس الممرضين الانجليزيين من الناحية النظرية اثناء الوردية، و لكنهما كانا مكلفين باسعاف العمال الانجليز و الويلز فقط، بينما انا كنت مكلف باسعاف الكل.

اما العمال فمعظمهم كان من المصريين القادمين من صعيد مصر مع عمال مناجم انجليز و من ويلز و بعض من المشرفين على الحفارة النمساويين، و كذلك بعض المهاجرين و الطلبة الافارقة الذي كان معظمهم يعمل لتوفير النقود للذهاب الى اوروبا. كان عمال المناجم البريطانيون قد اغلقت مناجمهم بواسطة حكومة مرجريت ثاتشر لعدم جدواها الاقتصادية و اصبحوا عاطلين عن العمل. كانوا قد سببوا مشاكل كبيرة لثاتشر بقيامهم بمظاهرات ضخمة و شكاوي في البرلمان و مقابلات في وسائل الاعلام. و حلت ثاتشر المشكلة بارسالهم لانهاء مشاريع مماثلة لمشروع القاهرة ببعض البلاد بعد ان امدت حكومات هذه البلاد بقروض مسهلة تشجيعا لهم على القيام بهذه المشاريع. كانت فكرة رائعة من حكومة ثاتشر بها تخلصت من مشكلة عمال المناجم و اعطت قروض سوف ترد لها بالفوائد ، و كانت معظم هذه القروض تذهب في دفع مرتبات العمال البريطانيون انفسهم و كثمن للمعدات و الادوات و التي كان معظمها يشترى من بريطانيا.

لنزول النفق كان عليّ ان ادخل لغرفة صغيرة لها باب يفتح على الخارج و آخر يفتح على باب بئر السلم الدائري الضيق النازل لأعماق النفق. و بعد غلق البابين يدفعون عليك تيار سريع من الهواء يرفع ضغط الغرفة في دقائق الى نفس ضغط النفق، و عند تعادل ضغط الغرفة مع ضغط البئر يمكن لك فتح الباب الداخلي و النزول على السلم العمودي الى قلب البئر. و بينما انت تنزل في رحلة تستغرق عدة دقائق طوال تشعر بدفقات الهواء المضغوط المتكررة التي تلفحك و هي مندفعة صارخة الى الاعماق للحفاظ على مستوي ثابت للضغط الذي يقل نتيجة تسرب الهواء خارج النفق. كان لهذه الدفعات من الهواء عواء مفزع و هي ترج حديد السلم رجاً رهيبا يكاد يعصف بك ان لم تتشبث جيداً بقضبان السلم. و ما كان يزيد من معاناة النزول كانت الضوضاء الشنيعة التي تحدثها الصناديق الحديدية التي تنزل و تصعد بالرافعات حاملة التراب و الدبش من اسفل و الماء و الطعام و غيره من اعلى.

و في اول مرة نزلت فيها هالني اتساع و ارتفاع النفق و سنكمل الحديث عنه المرة القادمة ان شاء الله.

مذكرات مهاجر مجهول

استطلاع الرأي

أسعار العملات

العملةشراءبيع
دولار أمريكى​ 29.526429.6194
يورو​ 31.782231.8942
جنيه إسترلينى​ 35.833235.9610
فرنك سويسرى​ 31.633231.7363
100 ين يابانى​ 22.603122.6760
ريال سعودى​ 7.85977.8865
دينار كويتى​ 96.532596.9318
درهم اماراتى​ 8.03858.0645
اليوان الصينى​ 4.37344.3887

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 2,069 شراء 2,114
عيار 22 بيع 1,896 شراء 1,938
عيار 21 بيع 1,810 شراء 1,850
عيار 18 بيع 1,551 شراء 1,586
الاونصة بيع 64,333 شراء 65,754
الجنيه الذهب بيع 14,480 شراء 14,800
الكيلو بيع 2,068,571 شراء 2,114,286
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الخميس 02:52 مـ
17 شوال 1445 هـ 25 أبريل 2024 م
مصر
الفجر 03:44
الشروق 05:18
الظهر 11:53
العصر 15:29
المغرب 18:28
العشاء 19:51