مذكرات مهاجر مجهول 29

ياما بيبان اتقفّلت و القلب نازل دق

ياما سألت العون لكن ما حدش رق

يا ما خبطت دماغي

في كل حته الاقي

لكنّي عمري ما دخت

و دُقت ياما الموت

لكنّي عمري ما مت

و بعد انتهاء اجراءات الدخول خرجنا من المطار و وجدنا في انتظارنا عربة ميكروباص اخذتنا الى فندق متواضع لكنه نظيف و في وسط البلد.

و في اليوم التالي ذهبنا لمقر المنظمة و جاء ليحاضرنا واحد من خبرائها. قال لنا ان المستشفى تخدم منطقة واسعة سكانها من المسلمين الفقراء جداً. لا توجد اي خدمات حياتية و معظم الناس تعيش في اكواخ من الطين و الخشب او في الخيم. كانت حالتهم سيئة قبل الحرب اما اثناء الحرب فهم في معاناة رهيبة حيث لا يصل لهم الا ما ترسله منظمات الاعانة الدولية. قال لنا ان الناس برغم فقرهم الا انهم عندهم عزة نفس كبيرة جداً و تعصب شديد لتقاليدهم و دينهم الاسلامي.

و سألني عن اصلي و جنسيتي و ديني قلت "مصري مسلم"، قال "لا تقل لهم انك مصري فهم اليوم غاضبون من الحكومة المصرية بسبب بطرس غالي و لان مصر لم تساعدهم بشئ يذكر"، فحاولت ان اعترض فقال لي "هنا لا مكان للتجربة و المحاولة ، هذا امر و الا ستعرض نفسك و باقي افراد المهمة للخطر. و قال اذا سألوك عن اصلك، لان اسمك عربي، قل لهم انك فلسطيني فهم يحبون الفلسطينيين. سكت على مضض و تمنيت الا يسألني احد.

و عرّفنا على طوبوغرافية المنطقة و مناخها و الأمراض المستوطنة فيها، و اهمها الملاريا، فقلنا له اننا اخدنا الدواء الذي يحمي من الملاريا. قال هذا الدواء لا ينفع في نوع الملاريا الموجود هنا و اننا "هناخد الملاريا هناخدها"، و لكن لا داعي للقلق لأنها عادة ملاريا خفيفة و علاجها موجود و فعال و "كل ما تجي لك هتاخد العلاج و تخف ".!!. و بالطبع انغمسنا في غم صامت.

قال لا تشربوا الا المياه المعدنية و لا تأكلوا الا اكل معلبات و لا تصادقوا احد من المحليين، و بالذات لا تحتكوا بالنساء ابدا و غضوا البصر و الا "وقعتكم سودة".

و قال ايضا شيئًا رهيباً لم اصدق ان اسمعه. قال لا يجب أن تقوموا بعمليات قيصرية أبداً. فهي بالنسبة لهم ضد الارادة الالهية و أن الطفل المولود بعملية قيصرية يعتبر طفلا ملعوناً الى الابد، و امه سوف تعتبر مشئومة و سوف يطلقها زوجها. فقلت له و ذلك ايضاُ في حالة لزوم القيصرية لإنقاذ الام او الطفل، قال نعم اذا حدث هذا فاتركوها او اتركوا الطفل يموت، و لا تمارسوا القيصرية تحت أي ظرف من الظروف. و قال ايضا ان معظم الولادات صعبة بسبب التشوه الذي تحدثه ما تسمى بعملية الطهارة و التي يدمرون فيها المنافذ التناسلية للبنات. قلت لهم ان هذه هي عادة من عادات الشعوب النيلية و من ايام قدماء المصريين و لا علاقة لها بالدين الاسلامي. قالوا انهم سمعوا دائما ان هذا امر ديني اسلامي و لذلك كانوا لا يفتحون هذا الموضوع أبداً.

عجبت من هذا الكلام - كيف يرفض الناس العملية القيصرية و هي تنقذ الآلاف من الامهات و الاطفال كل يوم حول العالم- و قلت لابد ان هذا الرجل مجنون، و لكن كانت هذه هي الحقيقة للاسف حيث أني تأكدت منها من مصادر اخرى.

لا يصل اي تليفزيون او حتى راديو و لا توجد كهرباء الا بمولدات فقط في المستشفى ، و لا تصل جرائد الا مرة واحدة في الاسبوع مع البريد في الطائرة التي تصل من نيروبي الى مركة.

و ارانا صور من المستشفى و المنطقة المحيطة بها. و ذهلنا ان ارضية صالة العمليات كانت من الرمل و كذلك كل غرف المستشفى.

و سألنا عن الطقس فقال انه حار اثناء النهار اما في المساء فهو لطيف و يمكن النوم بغطاء خفيف و لكن لابد من رش مبيد الناموس و فرد الناموسية و غلق جميع الشبابيك قبل الغروب.

وقال انه لا يوجد اي مناطق يمكن زيارتها في هذه المنطقة و ان علينا الا نبتعد اكثر من ٥٠٠ متر من محيط المستشفى. يعني سجن شديد الحراسة.

ثم قضينا ثلاثة ايام اخرى في كورس طبي مركز يتعلق بعلاج الحالات الحرجة في المناطق النائية ، و طرق نقل المرضى و المصابين و القوانين الدولية التي تتعلق بالكوارث و اللاجئين ، و كورس عن كيفية اتقاء و مواجهة مواقف الغضب و العنف الجسدي او النفسي. و اخيرا جعلونا نرى العديد من الصور البشعة لضحايا الحرب، و هي من الصور التي يمنعون عرضها في الجرائد و التليفزيونات ، و التي اصابتنا كلنا بالغثيان رغم اننا كنا اطباء و ممرضين ، اما الممرض الذي حضر معنا من ايطاليا فقد تقيئ كل ما في جوفه. كان هذا العرض الشنيع لازم لنا على حد قولهم حتى "نتعود على المناظر التي سوف نراها في مستقبل عملنا في مناطق الحروب و الكوارث". و بعد ان انتهوا قالوا اننا سنأخذ الطائرة التي ستحملنا الى مركة في صباح الغد.

و في الصباح الباكر عدنا الى مطار نيروبي وشاهدنا الطائرة الصغيرة ذات المحرك الواحد التي ستحملنا الى مركة. كانت طائرة قديمة جدارها مدقوق في كل مكان و طلاؤها قذر ومقشر على معظم جسم الطائرة. كانت رائحة الوقود تكاد تخنقنا و الطيار يبتسم لنا في بله غير مفهوم.

استقرينا على مقاعدنا و لم نكد حتى جرت الطائرة على الممر الصغير الغير ممهد اسفلته ونحن نتخبط في بعضنا، ثم اقلعت على دفعات من الارتفاع و الهبوط و هي تحشرج كحشرة عملاقة في آخر انفاسها. و بعد حوالي ساعتين و نصف او ثلاثة من المرجحة والخفق هبطنا على الممر الرملي ل"مطار" مركة. واخذونا الى فندق شديد التواضع على شاطئ البحر في قلب المدينة الصغيرة. و كان شاطئ الفندق جميل بل ساحر بمياهه الزرقاوية الصافية. و عندما اعربنا عن اعجابنا بالشاطئ و البحر (المحيط الهندي) قالوا لنا بسرعة لا يجب ان تنزلوا المياه لأنها مليئة باسماك القرش القاتلة و التي تصل حتى رمال الشاطيء.

وفي اليوم التالي كنا على مائدة الإفطار المتواضعة في الفندق ومعنا كل احمالنا استعداداً لاخذ العربية الجيب الضخمة التي رأيناها تقف امام الفندق في المساء عندما وصلنا في اليوم السابق. و ركبنا السيارة و بينما كان السائق يدير فيها المفتاح لاشعال محركها، صاح احدهم من داخل الفندق "توقفوا". وهرع الينا احد عمال الفندق وقال ان هناك مكالمة لمدير المنظمة الذي جاء معنا من ميلانو. ذهب الرجل مسرعا و عاد بعد حوالي ساعة الا ربع و نحن في غاية الزهق. طلب منا بوجه مظلم النزول من العربة وادخلنا الفندق و طلب منا الجلوس في الصالون. وبعد ان جلس قال في هدوء حزين أنه في غاية الأسف ان يخبرنا ان الدكتورة الجراحة التي كانت ستعمل معي في المستشفى النائي الذي كنا في طريق الذهاب اليه قد "قتلت" صباح اليوم على يد عصابة اجرامية سرقوها واغتصبوها ثم قتلوها بالطعن بالسكاكين وهربوا في الاحراش. وانه سيذهب هو فقط لوحده الى المستشفى لعمل اللازم. اما نحن فقال سوف نبقى في مركة حتى نرى ماذا سنفعل.

ذهب الرجل بعد ان تركنا في حالة ذهول وجلسنا في الصالون لا ندري هل نحن محظوظون او خائبون الامل. وخرجنا نتمشى على الشاطئ الجميل و بيننا من يريد العودة لايطاليا بأسرع ما يمكن وآخر يقول من الأفضل نقل المستشفى لمكان آخر وآخر يرى انه حادث عادي قد يحدث في اي مكان. اما انا فكان حزني كبيراً على الزميلة التي جاءت من بعيد لتساعد ناس لا يقربون لها بصلة فكان جزاؤها ان تغتصب و تقتل بوحشية شديدة. وقلت للزملاء لو كنا وصلنا الأسبوع الفائت لكنا حاضري هذه الغارة الإجرامية او ضحايا لها.

وقضينا الليلة بدون نوم و ادركنا انه لا يوجد اي نوع من الامان في هذا المكان.

وفي صباح اليوم التالي تجمعنا في الصالون ننتظر الاخبار. و عرفنا ان مدينة مركة كانت مركز هام للجالية الايطالية ايام الاستعمار الايطالي للصومال (و هذا قد يفسر لماذا اختيرت المنطقة كمكان للمستشفى الذي تديره منظمة ايطالية).

ويوجد فيها الكثير من مزارع الموز وبعض الايطاليون ما زالوا يعيشون فيها. وكانت مركة مصيف جميل حتى قامت الحرب الاهلية واصبحت شواطئها غير آمنة ترتع فيها اسماك القرش بعد غلق الميناء وبسبب وجود عدد من القراصنة يحومون حولهم كالذئاب علي مسافات قريبة من الشاطئ.

عاد مدير المنظمة بعد ثلاثة ايام بقينا فيها نحن في حبس اختياري داخل الفندق. قال لنا انه تم نقل الجثمان الى ايطاليا و اغلقت المستشفى لأجل غير مسمى و ان المهمة الغيت و علينا العودة لنيروبي على الطائرة القادمة ومن ثم العودة لايطاليا.

لم اعرف هل احزن ام افرح. عرفت ان هذا هو ما قدر الله لي و ان علي ان اجد عملاً عند عودتي الى ايطاليا او ان اعود لعملي في جبال الالب بالاضافة لعودتي لأبحاثي في جامعة بادوفا.

و فعلا رجعت لايطاليا في الاسبوع التالي وسط ارتياح جميع الاهل و الأحباب.

المهم انني اصبحت لا اثق بالكامل في بعض هذه المنظمات التطوعية. اخاف ان يكون الهدف منها هو جمع الاموال من الناس التي تريد فعل الخير و التي تذهب الى جيب عدد محدود من المديرين و المنظمين بينما الفتات يذهب الى من كانت الاموال مدفوعة اصلا لهم. اخاف ان تكون الحقيقة ان هذه المنظمات تعيش على رقاب المتطوعين و الضحايا و اللاجئين و الغلابة من البشر الذين يتاجرون بهم.

لم اعد احب التبرع بأي نقود لهؤلاء القراصنة الذين يعيشون على بلاوي الناس. فما إن تحدث كارثة في مكان في العالم الا و كانوا مسرعين بالاعلانات المدفوعة و في انترنت و وسائل الاعلام لكي يشعرون الجماهير بالذنب تجاه الضحايا. و يطلبون التبرع بمبالغ بسيطة فيتسابق الناس الى التبرع فتصبح المبالغ القليلة مع كثرة العدد مبالغ ضخمة. و حصيلة هذه التبرعات عادة تذهب الى جيوب قلة من النصابين و مصاصي الدماء.

وطلبت مقابلة البروفيسور بانيان و عندما رآني احسست بسعادته لرؤيتي و اخبري بفرحته بعودتي من أفريقيا و انه كان على وشك مراسلتي على عنوان منزلي لانه لديه مفاجاة جميلة لي.