مذكرات مهاجر مجهول الجزء الثاني ..11

أشرف علي يعقوب

وفي الطائرة التي حملتني إلى طوكيو، و بينما كنا نعبر الدائرة القطبية الشمالية و نحن نشق الظلام الحالك للخريف القطبي الشمالي على ارتفاع ١٢ كيلومتر من سطح الارض، تذكرت أن اليوم هي الذكرى السنوية الثانية و العشرين لوفاة امي العزيزة.

امي الحبيبة التي قضت نحبها بعيدا عنا وعن بلدها وحيدة بين ايدي ممرضات هنديات لا يعرفون كلمة واحدة من لغتها.

و بينما كنت أتأمل النجوم اللامعة وسط السماء السوداء عادت بي الذاكرة الى عام ١٩٧٤ و نحن نقضي اجازة الصيف كعادتنا في ابو قير بالقرب من الإسكندرية.

كنا على البلاج ننتظر والداتنا التي ذهبت لتحضر والدها من محطة القطارات كان الجو حاراً جدأ و البلاج مزدحم للغاية كالمعتاد و صاخب بأصوات الكاسيتات في المسجلات الحديثة حيث تمتزج اغاني محمد رشدي مع آهات ان كلثوم و تنهدات عبد الحليم حافظ. و كان الناس قد بدأوا في تناول الغداء على الشاطئ، و من الشمسيات بدأت تفوح روائح المحشي و المكرونة بالصلصة و الثوم و الباذنجان المخلل و الفلفل الرومي المقلي و السمك المشوي و الارز الصيادية و ارغفة الحواوشي. كان جدي قد حضر لقضاء آخر ايام اجازتنا معنا و التي كانت تدوم عادة شهر كامل ما بين يوليو و أغسطس. وصلت امي مع جدي، بعد ان تركا شنطته في الشقة التي كنا نؤجرها، الى شمسيتنا، و كانت قد بدأت تفوح روائح الجوافة و الكمثرى و المانجو عندنا انتهى الناس من الغداء و بدأوا في تناول الفاكهة.

و بعد التحيات و الاحضان اخرج من جيبه خطابًا كان قد وصل لامي من وزارة التربية و التعليم وجده جدي عندما مر على شقتنا قبل سفره. و كانوا يخبرونها بأنه قد تم إختيارها لتنضم لبعثات الاعارات المصرية للدول العربية لمدة أربع سنوات.

فرحنا جميعًا بهذا الخبر ماعدا أبي الذي كان معارضاً للفكرة من اساسها. كان هذا يعني دخل أحسن بكثير للاسرة و احتمال سفر أو حتى انتقال كامل للاسرة لبلد عربي غني أو بالتأكيد تحسن ملحوظ لمستوى معيشتنا في مصر. رجعنا للقاهرة مع نهاية الشهر و كنت الاحظ أن امي رغم فرحتها و حماسها لفكرة الاعارة الا انه كان يبدو واضحًا انها قلقة و متوترة. لم تكن قد سافرت الى خارج مصر إبدأ و لم تكن ابتعدت أبداً عن عائلتها، زوجها و نحن، و والديها اللذان كانا يعيشان في شقة على بعد دقائق من المشي من شقتنا في العباسية. كانت تراهما كل يوم تقريبًا. كانت تذهب لعملها كمدرسة في مدرسة العباسية الابتدائية للبنات و تتركنا مع والدتها، جدتي "نعمت"، و التي كانت صارمة معنا.

عدنا للقاهرة و كنت المح التوتر بين امي و ابي. عادت امي للمدرسة رغم أن الدراسة لم تكن بدأت بعد و ذلك حتى ترى اذا ما كانت هناك اخبار عن اعارتها او تعليمات جديدة لها. و فعلا وجدت دعوة لها للحضور الى دورة تدريبية تقدمها الوزراة لكل المدرسين المعارين من كل انحاء مصر و الذاهبين الى دول عربية خليجية. كانت الدورة تقام في مقر جامعة عين شمس و كان هذا مناسب جدا لنا لقرب مقر الجامعة من بيتنا في العباسية. قالت لي امي:"انا عايزة انك تجي معايا يا أشرف و تكتب كل ما تسمعه حتى أتأكد أنه لم يفوتني شئ مما سيقولونه". و فعلا حضرت كراسة جديدة و قلم حبر جاف جديد و تحمست لمساعدة امي و سعدت انه يمكنني أن اساهم في كفاح العائلة نحو حياة أفضل.

و في صباح أول يوم ذهبنا مشيًا على الاقدام مبكرين الى مقر الدورة التدريبية.

وجدنا حوالي ثلاث مئة شخص من نساء و رجال، قادمين من القاهرة و المحافظات. و بعض الرجال كانوا يلبسون، جاهزون، الجلباب العربي الأبيض المستعمل في بلاد الخليج. كان المحاضر واحد من وكلاء وزير التربية و التعليم، رجل انيق يلبس البدلة الرسمية الصيفي التي كانت موضة في ذلك الزمن و هي عبارة عن قميص نصف كم به أربعة جيوب كبار و بنطلون من نفس القماش و اللون و كانت منتشرة بصورة كبيرة في مصر في السبعينات و الثمانينات. بدأ الرجل بالعتاب على من جاؤا ، جاهزون ، بالجلباب العربي الأبيض الخليجي ، و قان أنه يستحسن أن يتجنبوا هذا اللباس لأننا كمصريين لا نعرف كيفية لبسه و هو ليس من ثقافتنا، و شكلنا "بيبقى مش كويس فيه" و إن هذا هو تصرف مستهجن من أهل الخليج و معاب و يعتبرونه نوع من النفاق الرخيص، و خاصة انهم في الخليج يغيرون هذا الجلباب كل يوم و أحيانًا مرتين في اليوم الواحد ، و يحافظون عليه ابيض و نظيف جدًا دائماً. قال أن على المسلمين أن يحافظوا على الصلوات الخمس و على المسيحيين أن لا يتكلموا في الدين أبداً. و ان الخمور ممنوعة تماما. و هكذا اعطى الحضور مجموعة قيمة جدًا من الارشادات و النصائح التي تنفع في كل البلاد الخليجية ، ثم بدأ يوجه نصائح لكل بلد على حدة.

كنا قد رأينا في القائمة التي كانت معلقة على الحائط في المدخل أن امي سوف تذهب الى سلطنة عمان، و كانت مفاجاة غير سارة لنا.